28 أكتوبر 2024
الاستيطان وصفقة القرن
لم يكن اعتراف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بشرعية المستوطنات الصهيونية على الأرض الفلسطينية، سوى خاتمة لمسار سلكته الإدارات الأميركية المتعاقبة التي اختلفت في التعريف القانوني للاستيطان الصهيوني، لكنها اتفقت جميعها على غضّ النظر عنه، والوقوف ضدّ إدانته، وتشجيعه من خلال زيادة الدعم المالي والعسكري والسياسي له، وإحالة الاستيطان، في جميع مشاريع الحلول التي اقترحتها، إلى مفاوضات الحل النهائي غير المنظورة، من دون أن توافق يومًا على تفكيك المستوطنات، أو تجميد بنائها، ولو شرطا لبدء المفاوضات، أو خلال المسيرة التفاوضية.
قال بومبيو بوضوح إن الولايات المتحدة ما عادت تعترف بالرأي القانوني إن بناء إسرائيل "مستوطنات مدنية" في الضفة الغربية يتعارض مع القانون الدولي. واعتبر بناء المستوطنات قضية محلية إسرائيلية، لا شأن للعالم بها، حيث إن "المحاكم الإسرائيلية وحدها المخوّلة ببتّ الوضع القانوني لمستوطنة ما، بناءً على ادعاءات بالملكية"، وكأن النزاع حولها لا يتعلق بأراضٍ محتلة، ولا علاقة له باتفاقات جنيف، ولا بالقانون الدولي؛ فهو نزاعٌ محلي على ملكية قطعة أرض، تتكفل المحاكم الإسرائيلية بحله إذا ما حدث، أي إنه خاضعٌ، بتفصيلاته كلها، للسيادة والقانون الإسرائيليين. ولا ينتقص من هذا المفهوم قوله، في السياق ذاته، إن مصير المستوطنات يُترك لمفاوضات الحل النهائي، فهذه المفاوضات، إن حدثت، لن تكون من وجهة النظر الأميركية - الصهيونية سوى مفاوضات إذعان، بعد فرض الوقائع على الأرض. وهو القانون الذي يلخّص سيرة الاحتلال، ويشكّل جوهر ما تعرف بـ"صفقة القرن".
مرة واحدة حدث استثناء خجول، وغير مكتمل، في الموقف الأميركي من الاستيطان، ولم يتكرّر. وعلى الأرجح أنه كان لتصفية حسابات داخلية أميركية. ففي الفترة الانتقالية بعد انتخاب دونالد
ترامب، وقبل أن يتسلم مقاليد السلطة، قرّر الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في نهاية ولايته، وقبل خروجه من البيت الأبيض مع وزير خارجيته جون كيري، الامتناع عن استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، حين عُرض قرار يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ويعتبرها مستوطنات غير شرعية، وتشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، ما سمح، للمرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة، بتمرير القرار رقم 2334، في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2016، بموافقة 14 عضوًا، وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت. واللافت أن مصر، العضو العربي في مجلس الأمن في ذلك الوقت، هي التي تقدّمت بمشروع القرار، لكنها سرعان ما سحبته، بعد تلقي الرئيس عبد الفتاح السيسي مكالمة من الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، يطلب منه سحب مشروع القرار الذي أنقذته نيوزيلندا والسنغال وفنزويلا وماليزيا، حين أعادت طرحه للتصويت في اليوم التالي.
لم تفلح بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولين أميركيين (إدارة جيمي كارتر) مثل القول بعدم شرعية الاستيطان، ومخالفته للقانون الدولي، وإن استمراره عقبة على طريق السلام، في وقف تغوّله على الأرض الفلسطينية، إذ استمر استخدام "الفيتو" الأميركي لمنع أي تحرّك دولي يستهدف إدانة الاستيطان. كما أجمعت الإدارات الأميركية على اعتبار تجميده أو تفكيكه مسألة مؤجلة إلى المرحلة النهائية من المفاوضات، بما في ذلك مباحثات كامب دايفيد، والتي جاء اتفاق أوسلو لاحقًا على منوالها.
اعتبر الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، أن إدارة كارتر كانت مخطئة كل الخطأ، عندما قالت إنّ المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير شرعية، إذ يبيّن قرار مجلس الأمن رقم 242، بحسب تفسير ريغان، أنّ "لليهود والعرب الفلسطينيين الحق في الاستيطان هناك، إلى أن تتفق كل من إسرائيل والأردن في ما بينهما على حدود آمنة ومُعترف بها". ويُذكر هنا أن مبادرة ريغان قد خلت من أي إشارة إلى الاستيطان، على الرغم من أن محاضر الاجتماعات الأردنية – الفلسطينية، منذ عام 1983، تعجّ بوعود أميركية كاذبة بتجميد الاستيطان، في حال تشكّل وفد مفاوض أردني - فلسطيني مشترك، للانخراط في عملية السلام المزعومة، وفق مبادرة ريغان. وهو ما دفع الحكومة الأردنية إلى توجيه أسئلة مكتوبة لجلاء الموقف الأميركي، قام بكتابتها وتسليمها إلى البيت الأبيض مستشار الملك حسين، جاك أوكنيل، وجاء الرد الرسمي الأميركي عليها، كما هو مدوّن في المستدرك من يوميات وزير البلاط الأردني الأسبق، عدنان أبو عودة، والتي سينشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قريبًا، بعد مطابقتها مع وثائق وزارة الخارجية الأميركية ومصادر أخرى.
يتلخص الموقف الأميركي الرسمي بأن "الوضع القانوني للمستوطنات يُحسم في سياق الوضع النهائي"، وأن هذه المفاوضات هي التي ستبُتُّ في مسألة المستوطنات القائمة أصلًا، فضلًا عن أي نشاط استيطاني جديد ينشأ خلال الفترة الانتقالية، والتي ستعارض خلالها الولايات المتحدة تفكيك المستوطنات القائمة. ويعني ذلك أن ثمّة ضوءًا أخضر لاستمرار النشاط الاستيطاني، وعدم وقفه طوال هذه الفترة. "أما في ما يتعلق بمحادثات السلام النهائية، فسوف تدعم الولايات المتحدة حق اليهود في العيش في الضفة الغربية وغزة. ويُتوقع من المقيمين اليهود أن يراعوا القوانين المحلية، على النحو المحدّد من السلطات المحلية، تمامًا كالعرب الذين يعيشون في إسرائيل قبل عام 1967".
يشي هذا النص (1983) بأكثر مما فيه، فهو يقرّ بحق لليهود في العيش في الضفة الغربية
وغزة، ويقارن وضعهم بوضع الفلسطينيين في "إسرائيل"، بما يوحي باحتمال مقايضة المستوطنات بالبلدات العربية فيها. علمًا أن الحكومة الإسرائيلية، وضمن قوانينها العنصرية، أقرّت لاحقًأ تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنين، في حين تطبّق القوانين العسكرية على العرب الفلسطينيين.
وقد عبّر الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، عن مخاوفه، في اجتماعات اللجان الأردنية - الفلسطينية المشتركة، من أنّ ترك الاستيطان لمفاوضات الحل النهائي، والتي يُفترض أن يُبحث فيها أيضًا موضوع اللاجئين، قد تشكّل نقطة مساومة بين الموضوعين.
وثمّة قصور واضح في وجهة النظر الفلسطينية والعربية بشأن الاستيطان، مشابه للقصور في نظرتهم إلى عملية السلام التي لم يقتنعوا بعد، على الرغم من جميع الجولات الماضية، أن ثمّة روايتين، عربية وصهيونية توراتية، لا يمكن التوفيق بينهما، مهما قدّموا من تنازلات. وينطبق هذا تمامًا على نظرتهم إلى الاستيطان الذي لم يدركوا خطره الكامن في تغيير هوية الأرض، وتهجير سكانها.
تمحورت النظرة العربية إلى الاستيطان أنه مرتبط بالأمن الصهيوني، وليس بالرواية التوراتية، فاعتقدوا أن تحقيق السلام الشامل يحلّ موضوع الأمن، وينهي الاستيطان، بحيث يعود المستوطنون من حيث أتوا، إلى داخل إسرائيل، وتُحلّ مشكلة تعويضاتهم، كما ستُحلّ مشكلات تعويضات اللاجئين. ولم ينتبهوا، حين قُسّمت المناطق المحتلة في اتفاق أوسلو إلى أ وب وج، إلى أن المنطقة ج، تُضاف إليها القدس، تشكّل ما مجموعه أكثر من 80% من مساحة الضفة الغربية، تخضع بالكامل لسيطرة الاحتلال، حيث انتشرت مستوطناته وتوسعت، والتي أعلن العدو عن نيته ضمها في الفترة القريبة المقبلة. وبذلك، لا يتبقى للفلسطينيين سوى بؤر (كانتونات) منعزلة ومنفصلة حول المدن الكبرى، تنهي تمامًا ما تبقى من وهم حل الدولتين، وتستدل الستار على مرحلة جديدة ممّا يسمّى "صفقة القرن".
مرة واحدة حدث استثناء خجول، وغير مكتمل، في الموقف الأميركي من الاستيطان، ولم يتكرّر. وعلى الأرجح أنه كان لتصفية حسابات داخلية أميركية. ففي الفترة الانتقالية بعد انتخاب دونالد
لم تفلح بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولين أميركيين (إدارة جيمي كارتر) مثل القول بعدم شرعية الاستيطان، ومخالفته للقانون الدولي، وإن استمراره عقبة على طريق السلام، في وقف تغوّله على الأرض الفلسطينية، إذ استمر استخدام "الفيتو" الأميركي لمنع أي تحرّك دولي يستهدف إدانة الاستيطان. كما أجمعت الإدارات الأميركية على اعتبار تجميده أو تفكيكه مسألة مؤجلة إلى المرحلة النهائية من المفاوضات، بما في ذلك مباحثات كامب دايفيد، والتي جاء اتفاق أوسلو لاحقًا على منوالها.
اعتبر الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، أن إدارة كارتر كانت مخطئة كل الخطأ، عندما قالت إنّ المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير شرعية، إذ يبيّن قرار مجلس الأمن رقم 242، بحسب تفسير ريغان، أنّ "لليهود والعرب الفلسطينيين الحق في الاستيطان هناك، إلى أن تتفق كل من إسرائيل والأردن في ما بينهما على حدود آمنة ومُعترف بها". ويُذكر هنا أن مبادرة ريغان قد خلت من أي إشارة إلى الاستيطان، على الرغم من أن محاضر الاجتماعات الأردنية – الفلسطينية، منذ عام 1983، تعجّ بوعود أميركية كاذبة بتجميد الاستيطان، في حال تشكّل وفد مفاوض أردني - فلسطيني مشترك، للانخراط في عملية السلام المزعومة، وفق مبادرة ريغان. وهو ما دفع الحكومة الأردنية إلى توجيه أسئلة مكتوبة لجلاء الموقف الأميركي، قام بكتابتها وتسليمها إلى البيت الأبيض مستشار الملك حسين، جاك أوكنيل، وجاء الرد الرسمي الأميركي عليها، كما هو مدوّن في المستدرك من يوميات وزير البلاط الأردني الأسبق، عدنان أبو عودة، والتي سينشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قريبًا، بعد مطابقتها مع وثائق وزارة الخارجية الأميركية ومصادر أخرى.
يتلخص الموقف الأميركي الرسمي بأن "الوضع القانوني للمستوطنات يُحسم في سياق الوضع النهائي"، وأن هذه المفاوضات هي التي ستبُتُّ في مسألة المستوطنات القائمة أصلًا، فضلًا عن أي نشاط استيطاني جديد ينشأ خلال الفترة الانتقالية، والتي ستعارض خلالها الولايات المتحدة تفكيك المستوطنات القائمة. ويعني ذلك أن ثمّة ضوءًا أخضر لاستمرار النشاط الاستيطاني، وعدم وقفه طوال هذه الفترة. "أما في ما يتعلق بمحادثات السلام النهائية، فسوف تدعم الولايات المتحدة حق اليهود في العيش في الضفة الغربية وغزة. ويُتوقع من المقيمين اليهود أن يراعوا القوانين المحلية، على النحو المحدّد من السلطات المحلية، تمامًا كالعرب الذين يعيشون في إسرائيل قبل عام 1967".
يشي هذا النص (1983) بأكثر مما فيه، فهو يقرّ بحق لليهود في العيش في الضفة الغربية
وقد عبّر الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، عن مخاوفه، في اجتماعات اللجان الأردنية - الفلسطينية المشتركة، من أنّ ترك الاستيطان لمفاوضات الحل النهائي، والتي يُفترض أن يُبحث فيها أيضًا موضوع اللاجئين، قد تشكّل نقطة مساومة بين الموضوعين.
وثمّة قصور واضح في وجهة النظر الفلسطينية والعربية بشأن الاستيطان، مشابه للقصور في نظرتهم إلى عملية السلام التي لم يقتنعوا بعد، على الرغم من جميع الجولات الماضية، أن ثمّة روايتين، عربية وصهيونية توراتية، لا يمكن التوفيق بينهما، مهما قدّموا من تنازلات. وينطبق هذا تمامًا على نظرتهم إلى الاستيطان الذي لم يدركوا خطره الكامن في تغيير هوية الأرض، وتهجير سكانها.
تمحورت النظرة العربية إلى الاستيطان أنه مرتبط بالأمن الصهيوني، وليس بالرواية التوراتية، فاعتقدوا أن تحقيق السلام الشامل يحلّ موضوع الأمن، وينهي الاستيطان، بحيث يعود المستوطنون من حيث أتوا، إلى داخل إسرائيل، وتُحلّ مشكلة تعويضاتهم، كما ستُحلّ مشكلات تعويضات اللاجئين. ولم ينتبهوا، حين قُسّمت المناطق المحتلة في اتفاق أوسلو إلى أ وب وج، إلى أن المنطقة ج، تُضاف إليها القدس، تشكّل ما مجموعه أكثر من 80% من مساحة الضفة الغربية، تخضع بالكامل لسيطرة الاحتلال، حيث انتشرت مستوطناته وتوسعت، والتي أعلن العدو عن نيته ضمها في الفترة القريبة المقبلة. وبذلك، لا يتبقى للفلسطينيين سوى بؤر (كانتونات) منعزلة ومنفصلة حول المدن الكبرى، تنهي تمامًا ما تبقى من وهم حل الدولتين، وتستدل الستار على مرحلة جديدة ممّا يسمّى "صفقة القرن".