16 فبراير 2020
الافتراق الحداثوي في الأزمة الخليجية
في سعيها إلى تقديم فهم أكثر عمقًا يعالج، بموضوعيّة، جوانب مختلفة في الأزمة الخليجية، خصصت مجلة سياسات عربيّة في عددها الـ 27 الصادر حديثا ملفًا خاصًا بالأزمة، احتوى سبع أوراق تحليلية رصينة. منها واحدة لأستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت، محمد الرميحي، بعنوان "الأزمة الخليجية وتداعياتها، الوقائع والمآلات: قراءة استشرافية". ولا تأتي أهمية هذه الورقة القصيرة من إطارها التحليلي المتماسك فقط، وإنما أيضا من معطيات ووقائع جمعها الباحث من شهادات ومقابلات ومطارحات سياسيّة، حضرها ضمن الصالونات السياسية والمجالس الشعبية التي تعد أبرز فضاءات النقاش المفتوحة في دول الخليج العربي، والتي عادة ما تكون خارج رقابة السلطة، أو برقابة من دون محاسبة أو عقاب.
إلى جوانب عوامل مهمة تناولتها الورقة، مثل الصراعات والخلافات الحدودية القديمة بين دول الخليج، والإخوان المسلمين، والسياسة الخارجية الطموحة لدولة قطر، وصّف الرميحي الأزمة الراهنة بأنها "تمثل عرضًا لمرضٍ أعمق؛ هو محاولة العرب، ودول الخليج على نحو خاص، الولوج إلى العصر، ومواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بحاضرهم وتهدّد مستقبلهم". ضمن هذا الفهم، يرى الرميحي أزمة بعض دول الخليج مع قطر عميقةً وقديمةً تخمد وتتجدد، لكنها لا تنتهي، وكانت في السابق تديرها دبلوماسيّة هادئة، لم تعد فاعلة اليوم بعد تراجع أسعار النفط، والحروب المشتعلة في الإقليم، والتي جعلت الخليج في موقع ما يُعرف بـ "سجناء الجغرافيا" بالإضافة إلى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
أما لب المشكلة من منظور دول حصار قطر الخليجية، فيكمن في نهج أمير قطر السابق، حمد
بن خليفة آل ثاني، الذي أراد إدماج قطر في الحداثة، وزفّ الحداثة إلى جواره الخليجي، حيث خطط لما يسميه الرميحي "تنمية انفجارية" عبر مشاريع تنموية يشهد لها بالكفاءة العالية في قطاعي التعليم والثقافة، وهو ما عاد بالنفع على سائر القطريين، بالإضافة إلى استثماره الكبير في مشاريع ساعدت في إقلاع قطر عالميًا من خلال سياسة خارجية طموحة.
ما سبق عرضه مهم، ولا يمكن تجاوزه بسهولة. وليس مأزق بعض دول الخليج مع قطر أنها عجزت عن اللحاق بركبها التحديثي من الناحية العمرانية أو الاقتصادية، إذ تسبقها الإمارات بأشواط في هذا المجال. ما يؤرق هذه الدول هو نمط التحديث وطرائقه، ومساراته المتبعة، ومآلاته "الحداثوية" المتوقعة. في هذا السياق، تعد كلمة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أخيرا، عند إطلاق مشروع نيوم أكثر الأمثلة الإجرائية على الافتراق الحداثوي الذي كان أحد المسببات الرئيسية للأزمة الخليجية الراهنة.
في التفاصيل، أخرج محمد بن سلمان من جيبه الأول هاتفًا قديمًا (Nokia 3331) للدلالة على السعودية القديمة القائمة، وأخرج من جيبه الثاني هاتفًا (8 IPhone) دلالة على مبتغاه بسعودية حديثة متطورة، تكون المشاريع الاستثمارية غير النفطية، على غرار "نيوم"، قاطرتها الرئيسيّة. للوهلة الأولى، يبدو الأمر ورديًا للأمير الطموح ولمؤيديه الذين غمروا القاعة بالتصفيق، وأيضًا لمن يدلل على الحداثة من خلال ناطحات السحاب أو المنتجعات السياحية فقط. لكن، قد يغيب عن الجميع أن الحداثة بهذه الطريقة لن تكون مستوردة فحسب، وإنما غير مكتملة لا تعي المسار التطوري العالمي على المستويات: التقني والاجتماعي والحقوقي.
من هنا، يطمح بن سلمان إلى التخلص من عهد التقليد بجلب حداثة استهلاكية، مدجّنة في
جوانبها القيمية على غرار المعمول بها في الإمارات، حداثة لا تهتم بتطوير ذاتية الفرد، بمقدار ما تسعى إلى توفير أسرة ضمن نمط استهلاكي، يبعده عن التفكير بما هو خارج رفاهيته. لا يعني ذلك أن النمط الاستهلاكي غير موجود في قطر، فهو من لوثات الدولة الريعيّة على وجه العموم، والنفطية خصوصا. لكن ما يميز قطر أنها خطت طريقًا تراكميا خاصًا في عمليّة التحديث، يستهدف المواطن القطري، ليس فقط في نمط حياته، بل في طريقة تكوينه وتأهيله وإعداده، وهو ما جعل قطر تتصدر مؤشرات التنمية البشرية في المنطقة والعالم، وتحظى بسمعة مكّنت مرشحها، حمد بن عبد العزيز الكواري، في انتخابات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، من الحصول على 28 صوتًا من أصل 58، وقد ذهبت أصوات عربية، ضمن منطق النكاية، إلى المرشحة الفرنسية الفائزة.
أشبع تمييز الحداثة "Modernity" عن التحديث "Modernization" بحثًا على المستوى الأكاديمي، وما يتم استحضاره هنا كيف أن عملية التحديث، إذ أنجزت وفق أسس تراعي الجانب القيمي والحقوقي والتنموي، قد تشكل لبنة رئيسيّة في مسار بناء الديمقراطيات. فالتحديث وفقًا لهذا المسار سيقود بالضرورة إلى مرحلةٍ تسميها أدبيات التحول الديمقراطي مرحلة التحرّر الليبرالي "Liberalization"، وهي مرحلة قد تسبق الانتقال الديمقراطي، وتؤسس له، وتضمن عبر مسارها حدا أدنى من الممارسات الديمقراطية.
الافتراق البنيوي في مسار التحديث واختلاف النظرة فيما يتعلق بالولوج إلى الحداثة هو مكمن الأزمة العميقة في الخليج التي تجدّدت أخيرا، وهو افتراق يجعل قطر دولة لا تخشى المد الديمقراطي في الإقليم، بل تدعمه، وهذا نهج لا يجعل الدوحة تخشى من الإجابة على سؤال الديمقراطية في الداخل، بخلاف الدول التي تحاصرها الآن التي أضحت أعلامًا في الاعتقالات السياسية، وتكميم الأفواه والتضييق على الحريات على مستوى العالم.
إلى جوانب عوامل مهمة تناولتها الورقة، مثل الصراعات والخلافات الحدودية القديمة بين دول الخليج، والإخوان المسلمين، والسياسة الخارجية الطموحة لدولة قطر، وصّف الرميحي الأزمة الراهنة بأنها "تمثل عرضًا لمرضٍ أعمق؛ هو محاولة العرب، ودول الخليج على نحو خاص، الولوج إلى العصر، ومواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بحاضرهم وتهدّد مستقبلهم". ضمن هذا الفهم، يرى الرميحي أزمة بعض دول الخليج مع قطر عميقةً وقديمةً تخمد وتتجدد، لكنها لا تنتهي، وكانت في السابق تديرها دبلوماسيّة هادئة، لم تعد فاعلة اليوم بعد تراجع أسعار النفط، والحروب المشتعلة في الإقليم، والتي جعلت الخليج في موقع ما يُعرف بـ "سجناء الجغرافيا" بالإضافة إلى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
أما لب المشكلة من منظور دول حصار قطر الخليجية، فيكمن في نهج أمير قطر السابق، حمد
ما سبق عرضه مهم، ولا يمكن تجاوزه بسهولة. وليس مأزق بعض دول الخليج مع قطر أنها عجزت عن اللحاق بركبها التحديثي من الناحية العمرانية أو الاقتصادية، إذ تسبقها الإمارات بأشواط في هذا المجال. ما يؤرق هذه الدول هو نمط التحديث وطرائقه، ومساراته المتبعة، ومآلاته "الحداثوية" المتوقعة. في هذا السياق، تعد كلمة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أخيرا، عند إطلاق مشروع نيوم أكثر الأمثلة الإجرائية على الافتراق الحداثوي الذي كان أحد المسببات الرئيسية للأزمة الخليجية الراهنة.
في التفاصيل، أخرج محمد بن سلمان من جيبه الأول هاتفًا قديمًا (Nokia 3331) للدلالة على السعودية القديمة القائمة، وأخرج من جيبه الثاني هاتفًا (8 IPhone) دلالة على مبتغاه بسعودية حديثة متطورة، تكون المشاريع الاستثمارية غير النفطية، على غرار "نيوم"، قاطرتها الرئيسيّة. للوهلة الأولى، يبدو الأمر ورديًا للأمير الطموح ولمؤيديه الذين غمروا القاعة بالتصفيق، وأيضًا لمن يدلل على الحداثة من خلال ناطحات السحاب أو المنتجعات السياحية فقط. لكن، قد يغيب عن الجميع أن الحداثة بهذه الطريقة لن تكون مستوردة فحسب، وإنما غير مكتملة لا تعي المسار التطوري العالمي على المستويات: التقني والاجتماعي والحقوقي.
من هنا، يطمح بن سلمان إلى التخلص من عهد التقليد بجلب حداثة استهلاكية، مدجّنة في
أشبع تمييز الحداثة "Modernity" عن التحديث "Modernization" بحثًا على المستوى الأكاديمي، وما يتم استحضاره هنا كيف أن عملية التحديث، إذ أنجزت وفق أسس تراعي الجانب القيمي والحقوقي والتنموي، قد تشكل لبنة رئيسيّة في مسار بناء الديمقراطيات. فالتحديث وفقًا لهذا المسار سيقود بالضرورة إلى مرحلةٍ تسميها أدبيات التحول الديمقراطي مرحلة التحرّر الليبرالي "Liberalization"، وهي مرحلة قد تسبق الانتقال الديمقراطي، وتؤسس له، وتضمن عبر مسارها حدا أدنى من الممارسات الديمقراطية.
الافتراق البنيوي في مسار التحديث واختلاف النظرة فيما يتعلق بالولوج إلى الحداثة هو مكمن الأزمة العميقة في الخليج التي تجدّدت أخيرا، وهو افتراق يجعل قطر دولة لا تخشى المد الديمقراطي في الإقليم، بل تدعمه، وهذا نهج لا يجعل الدوحة تخشى من الإجابة على سؤال الديمقراطية في الداخل، بخلاف الدول التي تحاصرها الآن التي أضحت أعلامًا في الاعتقالات السياسية، وتكميم الأفواه والتضييق على الحريات على مستوى العالم.