05 يونيو 2017
الانتخابات العرجاء
حين تحصل أزمةٌ اقتصادية، أو تُناقَش قضيةٌ اجتماعية، في بعض الدول العربية، يقفز بعض المهتمين بالسياسة، والمروجين للإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي، ليؤكدوا أنه لا حل بغير تغيير سياسي. الحالة التبشيرية بالإصلاح السياسي تقدمه حلاً سحرياً، على طريقة الشعار الشهير "الإسلام هو الحل"، وهي ضمن هذه النزعة التبشيرية، تُغفل العوامل الأخرى المتعلقة بالنقاشات الاقتصادية والاجتماعية، فتصبح وجهة نظر اختزالية، ذات بعد واحد، غير قادرةٍ على فهم الإشكالات الاقتصادية، ومحاولة تقديم حلولٍ لها، خارج إطار "سحر الانتخابات" التي تقضي على الفساد والفقر. أكثر من ذلك، لا تتمكّن هذه الرؤية، القائمة على اعتبار الانتخابات البرلمانية غاية المنى، وطريق الخلاص، من التفكير في اليوم التالي للسماح بالتصويت، وفي طبيعة المؤسسة التي تنتج عن الانتخابات، وكيفية إنتاجها ضمن الظروف القائمة.
استمرّت الاتجاهات الفكرية المعادية للديمقراطية ومبدأ الانتخابات، في التأكيد على عدم جاهزية المجتمع، وعدم صلاحية الظروف لإجراء تحوّل من هذا النوع. وفي المقابل، استمر الاتجاه المؤيد إجراء الانتخابات بالتأكيد على أنه لا علاقة للمسألة بجهوزية المجتمع، وأنه لا شرط من هذا النوع حصل في أي مكانٍ، جرت فيه الانتخابات، كما أنه شرط لا مقاييس واضحةٌ له، فكيف يمكن قياس جهوزية مجتمع ما للانتخابات؟ ما تم إغفاله من دعاة الانتخابات هو جهوزية الأرضية التي تقوم عليها الانتخابات، ولشدة ما تم تهميش كل نقاشٍ حول القضايا الأخرى المهمة للديمقراطية باتت الانتخابات غايةً بذاتها.
يرى الاتجاه الفكري المناوئ للانتخابات، في الغالب، أنها وسيلةٌ لصعود التطرّف والعصبيات. وعلى الرغم من أنه يتحجج بذلك لرفض المبدأ، إلا أنه لا يمكن العبور ببساطة بهذه الحجة، وتسخيفها من دون مناقشتها بجدية، وتحويل الجاهزية للانتخابات إلى "دوغما" لا تقبل الجدل.
هناك تخوّف عند شريحةٍ من الناس، من وصول خصومٍ نهجهم إقصائي، لأن المسألة لا ترتبط بالانتخابات، بل بالقواعد التي على أساسها تجري الانتخابات. وهنا، يحتاج دعاة الانتخابات إلى الخروج من شعاراتية المطالبة إلى التفكير بالأبعاد المختلفة لمسألة الانتخابات، وما الذي يقترحونه لإنتاج مجالس منتخبة، لا تقوم على ضرب التعدّدية، وتقليص الحريات.
يحتاج إنتاج عملية انتخابية جيدة ومستقرة تضافر عوامل عديدة، من أهمها إطلاق الحريات الأساسية: حرية التعبير، وحرية التجمُّع والتنظُّم، وحرية الوصول إلى المعلومة، في إطار التعدّدية السياسية والفكرية. هذه هي الضمانات لأن تستوعب العملية الانتخابية الجميع، وألا تكون نتائجها إقصاءً للطرف الخاسر، وضرباً لوجوده، وأن تستمر العملية في ظل فرصٍ متساوية للمتنافسين بإقناع الجمهور بأفكارهم وبرامجهم، وضمن إمكانية تبديل المواقع بين الفائزين والخاسرين. هذا الطرح يعني التأكيد على حرية الاعتقاد والضمير، وتعدّد الاتجاهات الفكرية والسياسية، من اليمين إلى اليسار، وإذا كان لدعاة الانتخابات إشكالات مع هذه المسائل، فهذا سببٌ لعدم الوثوق برسوخ إيمانهم بالديمقراطية.
لا تتوقف المسألة عند الحريات، فهناك تجارب انتخابية في بلدان عربية، لم تحقق تغييراً كالذي يسوّقه دعاة الانتخابات، فبلدان مثل الكويت والأردن فيها برلمانات منتخبة بصلاحيات محدّدة، وفي بلدان مثل العراق ولبنان يُنتِجُ البرلمان المنتخب السلطة التنفيذية، كما أن الانتخابات البرلمانية أقيمت في مصر وسورية قبل الربيع العربي. المسألة هنا لا تتوقف على شكلية الانتخابات، وديكورية المجالس، في بعض البلدان العربية، وإنما تتعدّاها إلى التدقيق في تركيبة هذه المجالس، المكوّنة في الأغلب من مجموعاتٍ عشائرية وطائفية، مع بعض التكتلات السياسية التي لا تخرج أيضاً عن هذه الصبغة بشكلٍ أو آخر.
لم تنتج التجربة الانتخابية الكثير، ربما لأن صلاحيات هذه المجالس ليست واسعةً بما يكفي لتحقق منجزاً، لكن الأهم أنها تجربةٌ معبرةٌ عن غياب الأحزاب والتجمعات السياسية الحديثة، وعن الفشل في إنتاج هويةٍ وطنيةٍ حديثة، ومواطنةٍ متساوية، ودفع الناس إلى الارتماء في أحضان طوائفهم وعشائرهم التي يخوض باسمها المرشحون صراعات هوية في الانتخابات، ثم في المجلس المنتخب الذي نرى نوعية قضاياه الساخنة، ونشهد فشله في مكافحة الفساد، بل انخراط النواب في شبكاته. تجري الانتخابات بعيداً عن أي برامج عمل، تُطرح لصالح كل المواطنين، وخارج التسليم بتمثيل المرشح للمواطنين جميعاً، إذ ينتمي المرشح لفئةٍ معينة، يمثلها في البرلمان أمام مرشحي الفئات الأخرى.
ليس حسم مسألة الهوية الوطنية والمواطنة ترفاً، بل هو أساس قيام أي ديمقراطية، وأي عملية انتخابية فاعلة، وإذا لم تكن الأرضية التي تقوم عليها الانتخابات جاهزة، بالحريات الأساسية في الديمقراطية، وترسيخ التعدّدية، وحسم مسألة الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية، فالنتيجة تكريس الواقع القائم في أفضل الأحوال، وتحويل الانتخابات والمجالس التي تفرزها ساحةً لصراعات الهوية، في غياب التكتلات الحديثة، وتصدّر تشكيلات عشائرية وطائفية المشهد.
التبسيط والاختزال يجعلان الانتخابات حلاً لكل الإشكالات القائمة، وطرحها بهذا الشكل هو اختزال للديمقراطية ذاتها، كما أنها لا تنهي الاستبداد والفساد بالضرورة، بل يمكنها أن ترفدهما، فالمسألة تتعلق بالأرضية التي تجري عليها الانتخابات، والقواعد والتوافقات السابقة على إجرائها، وهذا نقاش أساسي، لا يمكن تجنبه بتسخيف الحديث عن الجهوزية، فتجارب الانتخابات البرلمانية الفاشلة أمامنا، ولا مناص من التدقيق في أسباب تعثرها.
استمرّت الاتجاهات الفكرية المعادية للديمقراطية ومبدأ الانتخابات، في التأكيد على عدم جاهزية المجتمع، وعدم صلاحية الظروف لإجراء تحوّل من هذا النوع. وفي المقابل، استمر الاتجاه المؤيد إجراء الانتخابات بالتأكيد على أنه لا علاقة للمسألة بجهوزية المجتمع، وأنه لا شرط من هذا النوع حصل في أي مكانٍ، جرت فيه الانتخابات، كما أنه شرط لا مقاييس واضحةٌ له، فكيف يمكن قياس جهوزية مجتمع ما للانتخابات؟ ما تم إغفاله من دعاة الانتخابات هو جهوزية الأرضية التي تقوم عليها الانتخابات، ولشدة ما تم تهميش كل نقاشٍ حول القضايا الأخرى المهمة للديمقراطية باتت الانتخابات غايةً بذاتها.
يرى الاتجاه الفكري المناوئ للانتخابات، في الغالب، أنها وسيلةٌ لصعود التطرّف والعصبيات. وعلى الرغم من أنه يتحجج بذلك لرفض المبدأ، إلا أنه لا يمكن العبور ببساطة بهذه الحجة، وتسخيفها من دون مناقشتها بجدية، وتحويل الجاهزية للانتخابات إلى "دوغما" لا تقبل الجدل.
يحتاج إنتاج عملية انتخابية جيدة ومستقرة تضافر عوامل عديدة، من أهمها إطلاق الحريات الأساسية: حرية التعبير، وحرية التجمُّع والتنظُّم، وحرية الوصول إلى المعلومة، في إطار التعدّدية السياسية والفكرية. هذه هي الضمانات لأن تستوعب العملية الانتخابية الجميع، وألا تكون نتائجها إقصاءً للطرف الخاسر، وضرباً لوجوده، وأن تستمر العملية في ظل فرصٍ متساوية للمتنافسين بإقناع الجمهور بأفكارهم وبرامجهم، وضمن إمكانية تبديل المواقع بين الفائزين والخاسرين. هذا الطرح يعني التأكيد على حرية الاعتقاد والضمير، وتعدّد الاتجاهات الفكرية والسياسية، من اليمين إلى اليسار، وإذا كان لدعاة الانتخابات إشكالات مع هذه المسائل، فهذا سببٌ لعدم الوثوق برسوخ إيمانهم بالديمقراطية.
لا تتوقف المسألة عند الحريات، فهناك تجارب انتخابية في بلدان عربية، لم تحقق تغييراً كالذي يسوّقه دعاة الانتخابات، فبلدان مثل الكويت والأردن فيها برلمانات منتخبة بصلاحيات محدّدة، وفي بلدان مثل العراق ولبنان يُنتِجُ البرلمان المنتخب السلطة التنفيذية، كما أن الانتخابات البرلمانية أقيمت في مصر وسورية قبل الربيع العربي. المسألة هنا لا تتوقف على شكلية الانتخابات، وديكورية المجالس، في بعض البلدان العربية، وإنما تتعدّاها إلى التدقيق في تركيبة هذه المجالس، المكوّنة في الأغلب من مجموعاتٍ عشائرية وطائفية، مع بعض التكتلات السياسية التي لا تخرج أيضاً عن هذه الصبغة بشكلٍ أو آخر.
لم تنتج التجربة الانتخابية الكثير، ربما لأن صلاحيات هذه المجالس ليست واسعةً بما يكفي لتحقق منجزاً، لكن الأهم أنها تجربةٌ معبرةٌ عن غياب الأحزاب والتجمعات السياسية الحديثة، وعن الفشل في إنتاج هويةٍ وطنيةٍ حديثة، ومواطنةٍ متساوية، ودفع الناس إلى الارتماء في أحضان طوائفهم وعشائرهم التي يخوض باسمها المرشحون صراعات هوية في الانتخابات، ثم في المجلس المنتخب الذي نرى نوعية قضاياه الساخنة، ونشهد فشله في مكافحة الفساد، بل انخراط النواب في شبكاته. تجري الانتخابات بعيداً عن أي برامج عمل، تُطرح لصالح كل المواطنين، وخارج التسليم بتمثيل المرشح للمواطنين جميعاً، إذ ينتمي المرشح لفئةٍ معينة، يمثلها في البرلمان أمام مرشحي الفئات الأخرى.
ليس حسم مسألة الهوية الوطنية والمواطنة ترفاً، بل هو أساس قيام أي ديمقراطية، وأي عملية انتخابية فاعلة، وإذا لم تكن الأرضية التي تقوم عليها الانتخابات جاهزة، بالحريات الأساسية في الديمقراطية، وترسيخ التعدّدية، وحسم مسألة الهوية الوطنية والمواطنة المتساوية، فالنتيجة تكريس الواقع القائم في أفضل الأحوال، وتحويل الانتخابات والمجالس التي تفرزها ساحةً لصراعات الهوية، في غياب التكتلات الحديثة، وتصدّر تشكيلات عشائرية وطائفية المشهد.
التبسيط والاختزال يجعلان الانتخابات حلاً لكل الإشكالات القائمة، وطرحها بهذا الشكل هو اختزال للديمقراطية ذاتها، كما أنها لا تنهي الاستبداد والفساد بالضرورة، بل يمكنها أن ترفدهما، فالمسألة تتعلق بالأرضية التي تجري عليها الانتخابات، والقواعد والتوافقات السابقة على إجرائها، وهذا نقاش أساسي، لا يمكن تجنبه بتسخيف الحديث عن الجهوزية، فتجارب الانتخابات البرلمانية الفاشلة أمامنا، ولا مناص من التدقيق في أسباب تعثرها.