19 أكتوبر 2019
الانتخابات النمساوية.. انحسار اليمين المتطرّف؟
يبدو أن مد اليمين المتطرّف في أوروبا لا يسير في اتجاه تصاعدي، بل تتأرجح تياراته بين المد والانحسار، وكأنها غير قادرةٍ على تثبيت نفسها في المشهد الانتخابي. هذا ما قد يوحي بأن عملية تطبيعها سياسياً لم ينجر عنها تثبيت في الساحة السياسية، وأنها تبقى طيفاً يحذّره كثيرون. وهذا ما تبيّن من نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة النمساوية أخيرا. انتخاباتٌ كان قد أعلن عنها المستشار المحافظ سيبستيان كورز، بعد فضيحةٍ هزّت البلاد عقب تسريب الصحافة تسجيلا لزعيم حزب الحرية اليميني المتطرّف ونائب المستشار، هانس - كريستيان ستراش، يعرب فيه عن استعداده للتعاون مع أطراف روسية إذا ساعدته في التحكّم في صحافة بلاده مالياً، وفي تمويل حملاته الانتخابية. وتسببت هذه الفضيحة في استقالته من منصبه.
تعد هذه الفضيحة ضربة جديدة لأحزاب اليمين المتطرّف التي تدّعي النزاهة، وتندّد بفساد الأحزاب التقليدية الحاكمة، وتلاعبها بالمال العام. ولكن توالي فضائح أحزاب اليمين المتطرّف أثبت تورّطها في الفساد هي الأخرى، على الرغم من أنها لم تنفرد بعد بالسلطة، فالجبهة الوطنية الفرنسية مثلاً استغلت أموال البرلمان الأوروبي لدفع رواتب موظفي حزبها.. تشير هذه الفضائح إلى تطبيع آخر لأحزاب هذا اليمين؛ فهي الأخرى ينخرُها الفساد، بمجرّد تقرّبها من المال العام وملامسته، من خلال نجاحاتها الانتخابية. وربما يعد هذا التطبيع، عبر بوابة الفساد، تحوّلاً مهماً في مسار هذه الأحزاب، وقد يساهم في انحسارها، أقله من حين إلى آخر.
هناك دروسٌ يمكن استخلاصها من الانتخابات التشريعية النمساوية؛ أولها أن الناخبين لم يعاقبوا
الحزب المحافظ على تعاونه (تكوين ائتلاف حاكم) مع اليمين المتطرّف، على الرغم من فضيحة الأخير، حيث منحوا الحزب أغلبية الأصوات، في انتخابات يوم 29 سبتمبر/ أيلول الماضي، ليحصل على حوالي 37% من الأصوات، محسّناً نتائجه لعام 2017 بنقطتين. وهذا دلالة على قبول النمساويين تشكيل حكومات مع اليمين المتطرّف. ثانيها التراجع النسبي لحزب الحرية المتطرّف الذي لم يحصل إلا على 16% من الأصوات، ففقد نقطتين مقارنة بانتخابات 2017. ويمثل هذا التراجع النسبي للغاية دلالةً على أن ناخبي هذا الحزب لم يتأثروا كثيراً في سلوكهم الانتخابي بالفضيحة التي هزّت البلاد بسبب تصرفات زعيم هذا الحزب. ثالثا، ربما القراءة الأنسب لانحسار اليمين المتطرّف النسبي لا تكمن في نتائجه هو، وإنما في نتائج الاجتماعيين - الديمقراطيين والخضر، فالاجتماعيون الديمقراطيون أحرزوا حوالي 22% من الأصوات، ليحتلوا بذلك المرتبة الثانية بعد الحزب المحافظ، فيما فاز الخضر بحوالي 13% إلى 14% من الأصوات، محققين تقدماً كبيراً مقارنة بانتخابات 2017 التي كانوا قد حازوا فيها على أقل من 4% من الأصوات.
تبيّن هذه النتائج أن المفاجأة جاءت من الخضر، وليس من اليمين المتطرّف. وهذا ما يعني أن هناك ربما علاقة بين مد أحزاب الخضر في الانتخابات البرلمانية الأوروبية أخيرا وهذه الانتخابات الوطنية. طبعاً من الصعب الحكم على المنحى السياسي لليمين المتطرّف على أساس استحقاق انتخابي واحد، لا سيما أن تراجع حزب الحرية، نسبي للغاية، ولكن التساؤل يبقى مطروحاً بشأن تحولات الأحزاب اليمينية وتأرجحها بين المد والانحسار من استحقاق انتخابي إلى آخر في الدول الأوروبية. وذلك في مشهدٍ يغيب فيه تدريجياً الاستقطاب الأيديولوجي، فالتيارات
الصاعدة اليوم، أي الخضر، لا تقدّم نفسها بالضرورة خصماً شرساً لتيارات اليمين المتطرّف، على الرغم من رفضها أيديولوجيتها، لأن اهتماماتها البيئية أوسع وأشمل، ولا يمكن أن تكون خطاً سياسياً للاستقطاب الأيديولوجي. وهذا ما يربك أيضاً اليمين المتطرّف في تعامله مع الخضر، فهو يعتبرهم عموماً يساريين متطرّفين. ولكن نعتهم بهذه الصفة لم يكن كافياً للحد من مدّهم الانتخابي. ثم إن الخضر ليسوا في الحكم، وبالتالي فتهجّم اليمين المتطرّف عليهم يبقى محدود المفعول، مقارنةً بتهجّمه على الأحزاب التقليدية الحاكمة.
لذا من غير المستبعد أن يكون التنافس مستقبلاً بين التيارات السياسية الصاعدة في أوروبا بين أحزاب الخضر المنفتحة سياسياً وأحزاب اليمين المتطرّف الجامعة ــ المانعة سياسياً. في هذا التنافس، قد يجد اليمين الأوروبي المتطرّف نفسه في وضعٍ غير مريح، فمشاركة العديد من أحزابه في ائتلافاتٍ حكوميةٍ في أكثر من بلد تعني تحمّله أيضاً جزءًا من المسؤولية (من حصيلة تلك الحكومات) ما يجعلها، مع مرور الزمن، أحزاباً حاكمة ولو جزئياً. سيفقدها هذا حجّتها الأساسية: عدم ممارسة الحكم. فضلاً عن ذلك، فإن أداءها الحكومي وتورّطها في فضائح يجعلانها لا تختلف عن بقية الأحزاب التقليدية، ما عدا بأيديولوجيتها العنصرية.. هل سيفتح هذا المشهد السياسي المتغير الباب واسعاً أمام الخضر؟
هناك دروسٌ يمكن استخلاصها من الانتخابات التشريعية النمساوية؛ أولها أن الناخبين لم يعاقبوا
تبيّن هذه النتائج أن المفاجأة جاءت من الخضر، وليس من اليمين المتطرّف. وهذا ما يعني أن هناك ربما علاقة بين مد أحزاب الخضر في الانتخابات البرلمانية الأوروبية أخيرا وهذه الانتخابات الوطنية. طبعاً من الصعب الحكم على المنحى السياسي لليمين المتطرّف على أساس استحقاق انتخابي واحد، لا سيما أن تراجع حزب الحرية، نسبي للغاية، ولكن التساؤل يبقى مطروحاً بشأن تحولات الأحزاب اليمينية وتأرجحها بين المد والانحسار من استحقاق انتخابي إلى آخر في الدول الأوروبية. وذلك في مشهدٍ يغيب فيه تدريجياً الاستقطاب الأيديولوجي، فالتيارات
لذا من غير المستبعد أن يكون التنافس مستقبلاً بين التيارات السياسية الصاعدة في أوروبا بين أحزاب الخضر المنفتحة سياسياً وأحزاب اليمين المتطرّف الجامعة ــ المانعة سياسياً. في هذا التنافس، قد يجد اليمين الأوروبي المتطرّف نفسه في وضعٍ غير مريح، فمشاركة العديد من أحزابه في ائتلافاتٍ حكوميةٍ في أكثر من بلد تعني تحمّله أيضاً جزءًا من المسؤولية (من حصيلة تلك الحكومات) ما يجعلها، مع مرور الزمن، أحزاباً حاكمة ولو جزئياً. سيفقدها هذا حجّتها الأساسية: عدم ممارسة الحكم. فضلاً عن ذلك، فإن أداءها الحكومي وتورّطها في فضائح يجعلانها لا تختلف عن بقية الأحزاب التقليدية، ما عدا بأيديولوجيتها العنصرية.. هل سيفتح هذا المشهد السياسي المتغير الباب واسعاً أمام الخضر؟