الانفصام الليبي
جاءت انتخابات مجلس النواب في ليبيا خاتمة مرحلة انتقالية ثالثة، دعا إليها، وتمسك بها حزب تحالف القوى الوطنية، بقيادة محمود جبريل، بعد فشل حزبه في توجيه دفّة المؤتمر الوطني العام وفق رؤيته القائمة على أساس إقصاء التيار الإسلامي والوطني الليبي، بعد التغييرات الأخيرة في مصر، ظناً من الحزب أن جناحه المسلح، المتمثل في ميليشيات القعقاع والصواعق والمدني، قادر على حماية انقلابه السياسي.
وأفلح الحزب، من خلال لجنة فبراير، في أن يستحدث مرحلة انتقالية ثالثة، تتضمن هيئة برلمانية منتخبة بالنظام الفردي، وعدم دخول الأحزاب منافساً في هذه الانتخابات. وبالطبع، لا يمنع قانون الانتخابات الليبي الأحزاب من تقديم مرشحيها بالنظام الفردي.
واستغلّ حزب تحالف القوى الوطنية، وما سُمي، في فترة ما قبل انتخابات مجلس النواب، بالتيار المدني الذي تزعمه الإعلامي، محمود شمام، وأدار عملياته من القاهرة، الهجمة الشرسة الإعلامية، عبر وسائل إعلام تابعة له محلياً، وأخرى قادت انقلاب 30 يوليو/ تموز في مصر، للتأثير على الوعي الجمعي، وإيجاد قانون عزل مجتمعي للتيار الإسلامي والوطني، موازٍ لقانون العزل السياسي الذي أقره المؤتمر الوطني، وأبعد به رموز النظام السابق، بشكل مؤقت، عن سدة القرار الليبي.
وجاءت نتائج انتخابات مجلس النواب الليبي، كما توقع التياران المدني وتحالف القوى الوطنية، فقد استطاع الإسلاميون والوطنيون (المقصود بالتيار الوطني شخصيات عامة ليبية، لا تنتمي تنظيمياً أو فكرياً، لتيار الإسلام السياسي المعتدل، رافضة منطق الانقلابات على العملية الديمقراطية)، حصد قرابة الـ20% من مقاعد مجلس النواب الليبي، وهي نسبة لا يمكن أن تمارس إلا دور المعطل في الحد الأدنى.
أما باقي نسبة الـ80%، فكانت خليطاً من الفيدراليين، والمنتمين لحزب تحالف القوى
الوطنية، وما عُرف بالتيار المدني، أضف إليهم محسوبين على النظام السابق، ولعلّ جلسة حلف اليمين التي أقسم فيها عضو مجلس النواب عن مدينة مرزق في الجنوب، محمد أدم محمد، على الحفاظ على ثورة الفاتح، ثم عاد مصححاً ثورة فبراير، لم تكن فقط من زلات اللسان، بل دليلاً على طبيعة التركيبة النفسية لأعضاء في المجلس الجديد، أو ما قاله أبو بكر ميلاد، عضو مجلس النواب عن مدينة الخمس، من أن شرعية مجلس النواب الليبي استمدت من تظاهرات 30 يونيو/ حزيران التي أسقط بعدها الجيش المصري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، الرئيس محمد مرسي، وهي كلمة تعبّر عن حالة الاندماج النفسي مع فكرة الانقلاب، تحت أي غطاء كان.
بدت العملية السياسية، متمثلة في مجلس النواب الجديد، في حالة فصام مع العمليات العسكرية في طرابلس وبنغازي الرافضتين، في نسخة طرابلس، لمنطق هيمنة ميليشيات القعقاع والصواعق والمدني على منافذ الدولة ووزراتها ودعمها عملية الكرامة، وفي نسخة بنغازي، لمحاولة خليفة حفتر الانقلاب على العملية الديمقراطية، وإن كان يجب الاعتراف أن أنصار الشريعة في بنغازي الذي يقاتلون حفتر ضمن كتائب أخرى لا تقاتله وفق منطق الانقلاب على الديمقراطية، بل بالدفاع عن النفس ضد ما أعلنه عن استئصاله لها.
من البداية، كان الموقف الدولي داعماً للعملية السياسية في ليبيا، ومرحّباً بانتخابات مجلس النواب، باعتباره الجسم الشرعي الوحيد الذي يمكن له أن يتعامل معه في ليبيا، على الأقل من البيانات والتصريحات لكبريات الدول، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، والمنظمات الدولية والإقليمية.
في جانب آخر، يعي الغرب أن قوات فجر ليبيا، التي تقاتل في طرابلس، والمكوّنة من عدة مدن ليبية، بقيادة مصراتة، لا تنتمي بأي حال إلى التيار الإسلامي الذي يعتبره الغرب متطرفاً، وبالتالي، محاولة تحجيم قوات، مثل فجر ليبيا، أو كسر قوتها العسكرية، بتدخل أجنبي على الأرض، ليس في صالح الاستراتيجيات الغربية الكبرى، الهادفة إلى محاربة الإرهاب. ويعي الغرب، أيضاً، أن مَن يقاتلون في بنغازي اللواء المتقاعد خليفة حفتر، لا ينتمون كلهم للتنظيمات الإسلامية، المحظورة بحسب القوانين الغربية، والمصنفة إرهابية، مع إثبات هذه القوات صلابة ونجاعة في مواجهة جنرالٍ ادعى لنفسه من الصفات العسكرية والمؤهلات ما جعلها غير ذات قيمة، بسبب فشله في السيطرة على بنغازي. ولا يبدو أن المقاتلين في طرابلس وبنغازي سيسمحون لمجلس النواب الليبي الجديد بالاستحواذ على ما حققوه على الأرض، أو اقتربوا من تحقيقه.
ويحاول حزب تحالف القوى الوطنية، وعدة قوى محلية أخرى وإقليمية، مسابقة زمن انتصارات فجر ليبيا في طرابلس، أو مجلس شورى الثوار في بنغازي، عبر قرارات سياسية ترفع عنهم ورقة التوت، وتجعلهم عراةً من أي غطاء، لا أمام المجتمع الليبي، بل أمام الأسرة الدولية، تمهيداً لدعوته ثانية إلى توجيه ضربة عسكرية لليبيا، بعدما فشل وزير حكومة عبد الله الثني في جلب هذا التدخل من ردهات مجلس الأمن.
أظن أن الغرب سيتعامل بـ"واقعية الأرض"، لا بما يتمناه حزب محمود جبريل، لأنه يعي، في المحصلة الأخيرة، أن ليبيا إذا ما احترقت، فقد يصل لظاها إلى صالات الاستقبال في البيت الأبيض، حيث كان يجلس الثني قبل أيام.