30 اغسطس 2024
البارادَيم السياسي السوري وتَمنُّع الواقعي على الفِكرة
طرح المفكر الألماني، كارل شميت، منهجًا لافتًا في الفهم، عندما تكلم عن نطاقاتٍ مركزية للتفكير ظلت تتغير في العقل الأوروبي، مع التقدم بالزمن. ولم يعن في تغيرها بالضرورة توصيفًا لتطور بالضرورة، بقدر ما عنى تَغيُرًا يمكن أن يكون في الاتجاهين. وطوَّر شميت أداته المنهجية هذه بتصور نطاقٍ مركزي للتفكير متموضع في زمنٍ معين؛ فيقول إن الأسطورة كانت النطاق المركزي للتفكير في القرون الأولى، ثم تحرك النطاق المركزي إلى الماورائية (الميتافيزيقية)، ثم تحرّك إلى الأخلاق الإنسانية مع بداية عصر التنوير، ثم إلى الاقتصاد، فالتكنولوجيا، وهكذا.. ويطرح شميت: "إذا أصبح نطاق معين من التفكير نطاقًا مركزيًا، فإن مشكلات النطاقات الأخرى يتم حلها في إطار النطاق المركزي، ويتم التعامل مع هذه المشكلات التي تقع خارج المركز على أنها ثانوية، يأتي حلها بصورة تلقائية، ما إن يتم حل مشكلات النطاق المركزي". على سبيل المثال، عندما كان نطاق الأسطورة مركزيًا، كانت كل الأسئلة والمواضيع تمشي بسلاسة وترتيب من دون مشكلات، فقط حين يتم وضع الأسئلة الأسطورية في ترتيب ملائم غير إشكالي. وعليه، ما يطرحه سميث ويتصل مباشرة بطرق الفهم والمقاربة وأدواتهما، أن "المفهومات مثل الحرية، التطور، الأنثروبولوجيا، طبيعة الإنسان، النطاق العام، العقل والتعقل، الطبيعة؛ جميعها تستخلص مضمونها التاريخي العيني (concrete historical content) من وضعية النطاقات المركزية، ولا يمكن القبض على دلالاتها إلا وفق ذلك".
تستتبع هذه الأنواع من التبدلات في النطاقات المركزية بالضرورة تَغيُرًا في نمطٍ كامل من التفكير، ومن ثم المقاربة والفهم والاستنتاج والتحليل وثقافة وطريقة العيش، لأنها تعيد تموضعات الفكر جميعها استنادًا إلى النطاق المركزي الموجود في لحظةٍ معينة.
لنتصور أن هذا النطاق المركزي يشكل حقلًا منهجيًا، فإن هذا الحقل سيكون بالضرورة من جنسه، وسينتج منوالًا قادرًا على هضم المواضيع وفق طريقةٍ واحدةٍ تحكمها محاكاة طبيعة
النطاق المركزي المعرفية والتكوينية والمنهجية، فيتشكل نسق مركزي مُعيَّن وناظم للمسائل جميعها: المركزية والثانوية على حدٍ سواء. لنطلق على هذا الحقل/ الحقول المنهجية اسم النموذج المنهجي أو "الباراديم". فإذا استخدمنا مفهومي النطاق المركزي والباراديم أداتين لفهم طبيعة السياسة السورية وتحليلها، يمكن أن نقول الآتي: تَشكَّل في سورية بعد الثورة نطاقٌ مركزي في التفكير يقوم على "إسقاط النظام السوري برموزه وأشكاله كافة"، وفي هذا تشاركت سورية مع الدول التي شهدت الحراك المجتمعي السياسي، قبلها وبعدها، في ما يُعرف بـ"الربيع العربي". ويبدو أن هذا النطاق حافظ على مركزيته في سورية، الأمر الذي أنتج باردايماً سياسياً ثورياً متسقاً ومتناغماً مع هذا المركز، أهم سماته طغيان المرحلي على الاستراتيجي، بالمعنى الذي يعطي الأولوية للفعل على التفكير، وللخطاب على السلوك. فكان المشهد فقيرًا بالرؤى المتماسكة ذات الطابع الاستراتيجي، وأصبح الفكر تهمةً ملتصقةً بكل من يحاول أن يكسر هذا الباراديم. وتضخم خطاب فصل الفصل بين الفكر والسياسة، فسبب ضياعًا في الطريق والأهداف، فهذا الباراديم مصمّم للهدم، وليس للبناء. وعلى الرغم من صحة الموضوعة القائمة على هدم النظام بوصفه شرطا لازما لأي نوعٍ من البناء الوطني، إلا أن الباراديم المنهجي القائم على مركزية الهدم لا يعمل لبناء تحصيناتٍ تصبح لازمةً للهدم عندما يستعصي الأمر، كما في سورية. فضلًا عن أن هذا النطاق المركزي لا يصنع جماعةً سياسية، ولا يمتلك إمكانات صناعتها، فمعارضة نظام المجرم لا تصنع ما بعدها، لا تحتاج إلى اتفاق على أكثر من الحد الأدنى من الأخلاق للتموضع في صفوف المعارضة، وهي لا تحل القضايا الوطنية التي تشكلت وتضخمت على مدار نصف قرنٍ من التسلط والظلم والاستعباد. والأهم أنها تشكل اتفاقًا خادعًا، فالاتفاق على إسقاط النظام ليس اتفاقا على أي شيء سوى ذلك، بما في ذلك آلية هذا الإسقاط (وهذه شقوقُ اللحظات الأولى للثورة). هكذا تعرَّض الوضع المؤقت المستمر الذي وضع "إسقاط النظام" نطاقًا مركزيًا للتفكير السياسي السوري، لإخفاقاتٍ متتالية ومتراكمة، وأنتج بارادايمًا قاصرًا ومُعتلًا ومُعطلًا، لا يفي بالغرض الذي تشكَّل لتحقيقه. هذا ما يجعل من ضرورة تغيير البارادَيم السياسي ضرورةً وجودية للمشروع الوطني السوري، فالإشكال البارادَيمي هو الذي يسبب إشكالية المفهومات الوطنية، ومن ثم أزمة التعامل السياسي معها. ولحل العقدة السورية، يجب أن يحل الفكر السوري مشكلة الطريقة التي يلجأ إليها للتفكير فيها (طريقة طرح العقدة، وطريقة حلها). إذًا يمكن القول إن التقدم في المشروع الوطني السوري مرهون باستخدام بارادايم سياسي جديد وبديل. فما هو هذا الباراديم البديل؟
بدا إسقاط النظام منهجًا واحدًا مشتركًا، ولكن فَهمه كلُّ طرفٍ حسب مداركه ومحمولاته، حتى اقتتل إخوة المنهج في تفسير المنهج، وهذا نوع من القتال نعرفه جيدًا منذ صفّين والجمل ونهروان. ومرةً أخرى اليوم، يكرّر التاريخ هذا الدرس، فواحدةٌ من أهم العِبر التي يمكن استخلاصها من تجربة المعارضة السورية، هي الطبيعة المنهجية للإجماع الوطني. أي أن البشر لا يُجمعون مُخيَّرين على فكرةٍ واحدة، ولا ينصهرون في رأي واحد، ولا يتبنّون فكرةً واحدة، على نطاقٍ واسعٍ جدًا، إلا بمصادفةٍ مؤقتة، قابلةٍ للزوال، وتشكل استثناءً في التاريخ. بل يكون إجماع البشر في الاتفاق الواعي على طريقة تدبير خلافاتهم بسلامٍ وكياسةٍ مدنية، وعلى حدّة اتجاههم المنهجي؛ فإذا كانت هذه الوحدة تُعبّر عن العمومية والعلانية في فضاء عمومي مشترك، سيصير إجماعهم وطنيًا. وكان سيكون رائعًا ذلك المجتمع الذي يستطيع تشكيل الإجماع على رأي واحد، في المسائل جميعها، لولا الصعوبة الوحيدة التي ستعترضه، وهي أنه لن يكون مجتمعًا من البشر، بل من الملائكة.
لذلك ييدو أن النطاق المركزي يجب أن يتمحور حول ما يجمع السوريين، على اختلاف طرق مقارباتهم وفهمهم، أي الذي يجمعهم بما هم، لا الذي يتجاهل ماهياتهم بحجة تشارك الوطن، أو بحجة فضيلة "المجتمع المتجانس". هذا الجامع، بتقديرنا، هو رأس المال الاجتماعي الوطني
الذي يجسّر الروابط قافزًا فوق الانتماءات العضوية المختلفة، ويعطي لها البعد المدني المناسب لنمو فكرة الوطن والدولة الوطنية. ولكي يتشكّل رأس المال الاجتماعي الوطني ويتراكم بما يكفي ليحتل النطاق المركزي للتفكير، يجب أن تبادر النخبة السياسية السورية إلى توحيد الاتجاه المنهجي (الفضائية، والعمومية، والوطنية)، من دون أي اتفاق على وحدة المنهج. وهذا، في العمق، يعكس الاتفاق على أمرين: وحدة المصير، أو المصير المشترك بمجرد تشارك الوطن الواحد، وإقرارٌ بأن الحفاظ على الشخصي وصونه يمر عبر الحفاظ على الآخر وصونه، سواء كان هذا الشخصي رأيا أو معتقدا، أو هوية، أو انتماء، أو دينا، أو طائفة، أو قبيلة، أو حتى وجود وحياة، أو أي شيء يمكن أن نقول إنه ملكٌ لشخصٍ، أو لمجموعة مغلقة من الأشخاص التي تشترك في امتلاكه ويمنحها رأس مالها. وأهم خطوة في هذا التشكيل هي تفعيل التواصل، والعقلانية التواصلية التي تؤمن بالحوار مع الآخر بوصفه غايةً بحد ذاته، وذاتا لها قيمة، لا يمكن أن تكون وسيلةً لغايات الآخرين. ومن ثم إرساء ميثاق أخلاقي يضمن أسس "السلم الدائم"، بتعبيرات كانط.
ما إن تنجز النخبة السياسية نطاقًا مركزيًا جديدًا للتفكير، يقوم على بناء رأس المال الاجتماعي الوطني الجامع الذي يحتضنه فضاءٌ عمومي يقوم على العقلانية التواصلية؛ حتى يتم حل مشكلات النطاقات الثانوية جميعها بصورةٍ تلقائية في ضوء نضوج هذا المركز، ومنها إسقاط النظام، والتطرّف، القضايا الإثنية والطائفية. أما الاستمرار، وفق الباراديم القديم نفسه، فهو منطقُ الباذرون في موسم الحصاد، لا بذورهم تعيش، ولا هم يحصدون.
تستتبع هذه الأنواع من التبدلات في النطاقات المركزية بالضرورة تَغيُرًا في نمطٍ كامل من التفكير، ومن ثم المقاربة والفهم والاستنتاج والتحليل وثقافة وطريقة العيش، لأنها تعيد تموضعات الفكر جميعها استنادًا إلى النطاق المركزي الموجود في لحظةٍ معينة.
لنتصور أن هذا النطاق المركزي يشكل حقلًا منهجيًا، فإن هذا الحقل سيكون بالضرورة من جنسه، وسينتج منوالًا قادرًا على هضم المواضيع وفق طريقةٍ واحدةٍ تحكمها محاكاة طبيعة
بدا إسقاط النظام منهجًا واحدًا مشتركًا، ولكن فَهمه كلُّ طرفٍ حسب مداركه ومحمولاته، حتى اقتتل إخوة المنهج في تفسير المنهج، وهذا نوع من القتال نعرفه جيدًا منذ صفّين والجمل ونهروان. ومرةً أخرى اليوم، يكرّر التاريخ هذا الدرس، فواحدةٌ من أهم العِبر التي يمكن استخلاصها من تجربة المعارضة السورية، هي الطبيعة المنهجية للإجماع الوطني. أي أن البشر لا يُجمعون مُخيَّرين على فكرةٍ واحدة، ولا ينصهرون في رأي واحد، ولا يتبنّون فكرةً واحدة، على نطاقٍ واسعٍ جدًا، إلا بمصادفةٍ مؤقتة، قابلةٍ للزوال، وتشكل استثناءً في التاريخ. بل يكون إجماع البشر في الاتفاق الواعي على طريقة تدبير خلافاتهم بسلامٍ وكياسةٍ مدنية، وعلى حدّة اتجاههم المنهجي؛ فإذا كانت هذه الوحدة تُعبّر عن العمومية والعلانية في فضاء عمومي مشترك، سيصير إجماعهم وطنيًا. وكان سيكون رائعًا ذلك المجتمع الذي يستطيع تشكيل الإجماع على رأي واحد، في المسائل جميعها، لولا الصعوبة الوحيدة التي ستعترضه، وهي أنه لن يكون مجتمعًا من البشر، بل من الملائكة.
لذلك ييدو أن النطاق المركزي يجب أن يتمحور حول ما يجمع السوريين، على اختلاف طرق مقارباتهم وفهمهم، أي الذي يجمعهم بما هم، لا الذي يتجاهل ماهياتهم بحجة تشارك الوطن، أو بحجة فضيلة "المجتمع المتجانس". هذا الجامع، بتقديرنا، هو رأس المال الاجتماعي الوطني
ما إن تنجز النخبة السياسية نطاقًا مركزيًا جديدًا للتفكير، يقوم على بناء رأس المال الاجتماعي الوطني الجامع الذي يحتضنه فضاءٌ عمومي يقوم على العقلانية التواصلية؛ حتى يتم حل مشكلات النطاقات الثانوية جميعها بصورةٍ تلقائية في ضوء نضوج هذا المركز، ومنها إسقاط النظام، والتطرّف، القضايا الإثنية والطائفية. أما الاستمرار، وفق الباراديم القديم نفسه، فهو منطقُ الباذرون في موسم الحصاد، لا بذورهم تعيش، ولا هم يحصدون.