كان الباص الطويل المزركش يمر فوق الجسر كل يوم، نحلم نحن الأطفال بالركوب فيه، نعتبره جنّة متحركة، فلم يتح لنا الركوب في حافلة متحركة، أقصى ما كنا نركب على ظهره هو ظهور آبائنا، وظهور الحمير حين نزور أقاربنا في القرى المجاورة.
عالم الباص كان مدهشاً، فيه مقاعد جلدية لم نكن نراها في بيوتنا، إذا إن فرشات الصوف كانت أقصى ما كنا نراه.
احترنا كيف نهجئ تلك الكلمة: (الباغوز) كانت كلمة صعبة كيف تجتمع حروف الغين والواو والزاي مسبوقة بالباء، بفكرة شيطانية من أحد رفاقنا حولنا الغين جيماً ليسهل نطقها وتصبح أقرب إلى أسماء جداتنا على وزن (العاجوز).
كنا نمشي باتجاه الجسر عصراً، نقف على رصيفه، ونرفع أيدينا لأطفال حققوا حلمهم بالركوب في تلك الباصات الملونة، لم نكن نعرف وقتها أن أولئك الأطفال يزورون المدن إذا مرضوا فحسب، حتى لو عرفنا فلن نتراجع عن أمنياتنا: لو عاش أهلنا بعيداً عن المدينة الكبيرة لأتيح لنا الركوب في تلك الباصات، ولو مرضى!
كان صعودي في ذلك الباص حين بلغت اثنين وعشرين عاماً لا يشبهه أي صعود آخر، لم يعرف سائق الباص سر فرحي، ربما كان منشغلاً برائحة صادرة من راكب نائم، أو بكاء طفل لا يعي لماذا يتحرك هذا الكائن المسمى باصاً!
أخذت أقرأ وجوه البشر، سحنات تلك الوجوه، نظرات عيونهم، قال لي معاون الباص: نحن عادة لا نقف على الطريق، لكن من حسن حظك أن راكباً نزل في نفس المكان الذي صعدت منه، شكرته وكدت أن أشرح له، لو تعرف أي أمنية حققتها لي!
كان الرجل الذي أتيح لي الجلوس بجانبه خمسينياً علمته الحياة الكثير، فبادرني: أنت معلم؟
قلت له: نعم!
بالشعيطات؟
قلت له نعم، وصححت أن اسم القرية (أبو حمام)!
ابتسم قائلاً: هذه تسميات الحكومة من أجل الأوراق الرسمية فقط، أما تسمياتنا فهي الأساس، فالقرى هنا لم تشكلها الحكومة، بل شكلتها العشائر ثم جاءت لتسمي القرى بحسب الأمكنة، ولم تسمها باسم العشائر!
استغربت طروحاته، وأجبته بلغة الشاب الواثق، لكن الدولة يجب أن تبحث عن المشترك بين الناس، قاطعني: نحن في الباغوز نعيش متكاتفين من دون دولة: عقيدات، وجبور ومراشدة وراويين ودليج ورحبيين ومشاهدة وطي...
كيف لي أن أشرح له اليوم لو بقي على قيد الحياة مفهوم الدولة وكيف يتخلى الكل عن بعض صلاحياتهم لأجهزة الدولة، وسألت نفسي ثانية: كيف تشكل مفهوم الدولة في الشرق المعاصر نتيجة الإكراه أو الحوار مع المواطنين...!
لو أتيح لهؤلاء الناس في سهل الفرات الالتحاق بدولة ما هل سيختارون العراق التي تشبههم لغة وعادات وأغانيَ وأوجاعاً! أم يختارون سورية! لم أسمح لهذا السؤال بالامتداد عميقاً كي لا تتشظى (سورياي) التي أحببتها، ولا يبقى منها شيء إذا ناقشت عبر هذه الطريقة كل مناطقها الحدودية.
اهتزاز الباص والطرقات ذات التعبيد السيئ تعطي المرء فرصة للتخلص من غليان رأسه والاستجابة لسلطان النوم، أين ذلك الباص؟ كيف لي أن أحضره اليوم إلى هولندا ليهدهدني لعلي أنام سويعات من دون أسئلة وجودية على طرقات هي الأولى عالمياً من حيث الجودة؟
***
انكسار وجوه الأطفال والنساء وحيرتهم وهم خارجون من هذا الكهف على شاشات التلفزة، أبلغ من أي لغة، ذلك المنحدر، أبلغ من أي متاجرة لهذا الطرف أو ذاك، تلك السهول الزراعية المسماة بالباغوز المقابلة لمدينة البوكمال تقول الكثير الكثير، فالنقطة الأخيرة لهذا الحلم/ في إقامة دولة على مقاس ما، تعلن هنا نهايتها، الكنوز الذهبية هنا وكنوز الوثائق والدولارات قالت كلمتها الأخيرة، ساهمت في نجاة الكثيرين، وإلا لأصابها ما أصاب الرقة والميادين وسواها من تدمير...
حين تركهم أمير المؤمنين قبل نحو أربعة أشهر (كما تقول روايات محلية) ليهرب إلى الجانب الآخر حيث صحراء الشامية مع ما يستطيع من ذهب ودولارات، حيث الصحراء والروس والإيرانيون وميليشيات النظام الذين يسهل شراؤهم أو التعاون معهم إلى فترة ما...
في ذلك الطرف، الكل يحب أمير المؤمنين أو بكلمة أدق ما يملك أمير المؤمنين، ما جناه أمير المؤمنين من زكاة، أو سرقات جنوده، بقرات أمي التي استولى عليها، وأسلحة أبي التي احتفظ بها فترة طويلة، كل ذلك احتفظ به أمير المؤمنين ليشتري الطعام والشراب من أعدائه، ليس لأحد أن يناقش أمير المؤمنين في أسباب هجرته من الجزيرة إلى الشامية، فهو ولي الأمر، أدرى بمصالح رعاياه، ترك فقراءه يواجهون أعتى الأسلحة بعد أن بشّرهم بالنصر القريب على العدو، لم يستطيعوا أن يروا كل الخسائر على الأرض، لأن ما زرعه أمير المؤمنين قادم من السماء، لذلك بقوا حتى اللحظة الأخيرة يدافعون عن حلمهم، يا للوفاء للأحلام!
وجدَ أهالي الباغوز أنفسهم يتحولون من قرية لا يعرف عنها حتى أبناء العشائر والقرى المجاورة الكثير، يتحولون إلى مركز رئيسي في أخبار العالم، وكالات الأنباء وكبرى وكالات المخابرات العالمية تهتم بتفاصيلهم، تحصي عدد بيوتهم، من بقي منهم ومن هاجر أو سافر، يحاصر الجيش العراقي عبر الساتر الحدودي الباغوز العراقية، وقد أعاد الساتر إلى مكانه بعد أن أزاله جنود الخليفة قبل أربع سنوات، وهكذا لا يستطيع أبناء العمومة مساعدة بعضهم وقد أعاد الساتر حكايات قديمة.
ليست وكالات الأنباء والمخابرات وحدها، بل (اسنس) داعش المتبقي، التل المطل على الباغوز الفوقاني الذي تستطيع من خلاله رؤية كل بيوت الباغوز التحتاني، بل مدينة القائم العراقية، والبوكمال، ذلك التل الذي التقطت منه أجمل الصور للغروب الفراتي، ذلك التل الذي يسميه أبناء الباغوز الجبل يريدون أن يمتازوا عن القرى الأخرى، جاء ليزوره أشخاص من جنسيات مختلفة، قادهم إليه بؤس الحياة أو نمطيتها الأوروبية، ظن مغامرون كثيرون أن الحياة النمطية لا تكسر إلا بإيديولوجية غريبة تحقق دولة مشتهاة، لا يعلم إلا الأمير من أين جاءت أو ما هي محركاتها.
أتخيَّلُ ذلك الباص القادم من جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ماذا كان سيحكي، وأي ركاب سيحملهم معه، أو سيتركهم هناك؟
أتساءل عن أكثر من عشرة آلاف بقرة ماذا حلّ بها؟ وهي ترى التفجيرات والإف 16 تحوم في الجو؟
ماذا حدث لتلك الدجاجات التي كان أطفال الباغوز يقايضون بيضها بحلاقة شعر أو بقطعة حلوى عند دكان (خلف المرسومي)؟
أين تلك الباصات وقد خطفت منها الأضواء السرافيس السريعة، وزارتها أحدث أسلحة العالم، سألتُ عن معاون ذلك الباص وهو أهم شخص بنظر أبناء القرية في الثمانينات لأنه وحده من يصعد ظهر الباص ليطبّق حاجياتهم من دون أن تتعرض للتكسير في رحلة عودتهم إلى القرية وأطفالهم ينتظرونهم.
***
قالوا لي إنه توفي منذ سنوات، ماذا كان سيقول لو رأى ما يحدث في الباغوز؟ أظن أنه سيفضل أن يبقى في قبره على أن يخرج ليرى أن لا دور له، وقد تجمع ذهب العالم ودولاراته وجنسياته في قريته؟
هل بقي قبره سالماً أم أن شظايا صاروخ أبعدت عظامه عن بعضها؟
أموات الباغوز القدامى وقد قصوا عشرات الحكايات عن السابقين، أموات الباغوز الذين كانوا يوصون أطفالهم بالمشي الهادئ في مناطق المقابر والصوت الخفيض وعدم استعمال الماء الساخن هناك خشية على أرواح السابقين التي تملأ المكان... ماذا حل بكم؟
أم أن الرغبة بتحقيق بروباغندا عالمية هي أهم من سكينة أرواحكم؟ مختار الباغوز ورئيس الجمعية الفلاحية، ومن يوزع الماء على الفلاحين ويضبط الدور بينهم؟ أعمامي (الدندل) أين أخذتكم دروب الحياة؟
أولئك الذين قادتهم ضغوطات المقتلة السورية وقد احتضنتهم أرض الباغوز...أهل الباغوز: يريدون أن يقولوا لكم، إنهم لم يتخلوا عنكم، المشكلة كانت في أن الباص الملون منذ أن سافر آخر مرة، لم يعد، ابتلعته المدن الكبرى، أو الدول الكبرى. ربما تحول إلى باص أسود وأبيض نتيجة غبار الحروب وليس رغبة في العودة إلى زمن الأسود والأبيض، أو ربما قضى على أثر صاروخ مسيّر لا يرى جمال العالم إلا بالحروب التي يغذيها ليبقى، وتبقى مصانعه وأفكاره وحمه للعالم وإرهابه للآخرين.