محافظة البصرة التي كانت تحتضن أكثر من 10 ملايين نخلة في سبعينيات القرن الماضي، لا تبدو كذلك اليوم، إذ تراجعت أعداد النخيل بشكل كبير إلى أقل من 3 ملايين نخلة، ولم تعد هذه الأعداد تلبّي حتى حاجة السوق العراقية التي أغرقتها التمور الإيرانية الرخيصة.
وقضت حملات التجريف في بساتين النخيل وقطعها أو حرقها على معظم مزارع النخيل، وبدت كأنها معركة بين البشر والنخيل بسبب ثأر قديم، على الرغم مما وفرته تجارة زراعة النخيل لأهالي البصرة من مصدر رزق كبير على مرّ العقود السابقة.
ويعود التراجع الكبير في عدد نخيل البصرة أيضاً إلى إهمال الجهات الحكومية المختصة بالزراعة، بحسب عضو نقابة المهندسين الزراعيين في البصرة محمد السلامي، الذي أكّد لـ "العربي الجديد" أن عدد النخيل في البصرة تراجع إلى نحو مليونين ونصف المليون نخلة، بعد أن كان العدد يتجاوز عشرة ملايين نخلة قبل نصف قرن.
وأضاف أن "تراجع عدد النخيل في البصرة تسبب بانقراض بعض أنواع التمور"، مبيّناً أن نخيل البصرة كان ينتج أكثر من 300 نوع من التمور، أبرزها البرحي والخستاوي والزهدي وأنواع أخرى.
وتابع أن "الغريب في الأمر أن البصرة التي كانت تصدر التمور قبل عام 2003 إلى مختلف دول العالم، تستورد التمور اليوم من إيران ودول الخليج"، مؤكداً أن ما حدث لنخيل البصرة يمثّل هدراً في الثروة الوطنية، فضلاً عن خسارة كبيرة لجمالية البصرة التي كانت مغطّاة بالنخيل حتى وقت قريب.
وإيران الآن أكبر شريك تجاري للعراق، مع حجم تبادل تجاري سنوي يبلغ حوالي 12 مليار دولار، وفقا لمسؤولين عراقيين. وتصدر إيران المواد الغذائية والماشية ومواد البناء والمنتجات البلاستيكية إلى العراق. ويقول تجار محليون إن المواد الغذائية الإيرانية والسلع الأخرى الرخيصة، تهيمن على الأسواق العراقية.
وقال عضو مجلس مدينة الزبير، غربي البصرة، حسين الدوسري، إن كثيراً من بساتين المدينة اختفت بسبب قيام أصحابها بتجريفها وتحويلها إلى أماكن تجارية وسكنية، مؤكداً لـ "العربي الجديد" أن هذا التجريف حوّل المساحات الخضراء التي كانت تحيط بالزبير إلى مراكز تجارية ومعارض لبيع السيارات وأماكن لبيع مواد البناء "السكلات".
وفي سياق متصل، أكّد أصحاب بساتين أنهم اضطروا لتجريف بساتينهم وتحويلها إلى أراضٍ تجارية بسبب الإهمال الحكومي.
وأوضح مسلم فاضل، وهو صاحب بستان في محيط مدينة القرنة (شمال البصرة)، أن العناية بالنخيل تراجعت كثيراً، وهو أمر أثر في أسعار البساتين التي انخفضت كثيراً، مبيناً في حديث لـ"العربي الجديد" أن تجريف الأرض وتحويلها إلى تجارية يضاعف سعرها ويسرع كثيراً عملية بيعها.
وصدّر العراق العام الماضي أكثر من 300 ألف طن من التمور إلى الخارج، بأسعار متفاوتة، غالبيتها إلى أوروبا ودول أميركا اللاتينية، وهو أقل بكثير من المعدل السابق الذي كان يصل إلى مليون وربع المليون طن سنوياً، وفقاً للمهندس في وزارة الزراعة حسين فاضل الزيدي، الذي أكد لـ"العربي الجديد" أن سبب غزو التمور الإيرانية ورخصها مقارنة بالعراقية يعود إلى تواطؤ تجار ومسؤولين عراقيين مع إيران، مبيناً أن الأمر يشبه استيراد العراق الغاز من إيران في الوقت الذي يصدر فيه هو الغاز إلى الكويت"، وفقاً لقوله.
وكان نقيب المهندسين الزراعيين في البصرة قد عزا أسباب قلع وتجريف النخيل إلى أسباب متعلّقة بالسوق، موضحاً أن أغلب أصحاب البساتين هاجروا إلى دول عربية وأجنبية منذ فترة، وقام بعضهم ببيع البساتين بثمن الأرض وليس البستان، على اعتبار أن القيمة السوقية للأرض أعلى من قيمة البستان.
وأشار إلى أن ضعف الدعم الحكومي للفلاحين دفعهم إلى الاعتماد على أنفسهم في مكافحة الآفات الضارة بالنخيل، مبيّناً أن ترسبات المياه أثرت أيضاً على تطوير زراعة النخيل في البصرة.
وبحسب آخر إحصائية للجنة الزراعة في مجلس محافظة البصرة، فإن أعداد النخيل في المحافظة تراجعت من 10 ملايين نخلة إلى أقل من ثلاثة ملايين نخلة، وعزا رئيس اللجنة جمعة الزيني، السبب الرئيس لذلك إلى عمليات تجريف البساتين. وأشار إلى هلاك عدد من أصناف النخيل نتيجة التجريف وأسباب أخرى، لافتاً إلى وجود مساعٍ للحد من عمليات التجريف.
وكان المتحدث باسم وزارة التجارة محمد حنون، قد قال في تصريحات سابقة، نقلتها "العربي الجديد"، إن العراق يبذل كل ما في وسعه لحماية الصناعة المحلية، بما في ذلك تقديم دعم للمزارعين، لكن البلاد "اختارت مسار الأسواق الحرة".
وأضاف أن الوزارة تريد أن يتمكّن المواطنون من اختيار المنتج الأفضل، وفي بعض الحالات فإن المنتج المحلي ليس الأفضل، مضيفاً أن المزارعين في حاجة إلى الاعتماد على أنفسهم وعلى القطاع الخاص.
وفي ذروة ازدهاره، كان العراق ينتج 3 أرباع كمية التمور المنتجة في العالم. بينما يمثل إنتاج العراق حاليا نحو 5% من الإنتاج العالمي، وهو سابع أكبر منتج، وفقا للمجلس الدولي للمكسرات والفاكهة المجففة.