في عملية تكساس، على الأقل، ترك الجاني أدلة تؤكد رفضه المهاجرين من بلدان أميركا اللاتينية. حتى كمتسوقين قدموا إلى مدينته للتبضّع. الخطر الفارق الذي هزّ الساحة الأميركية أكثر من أي مرة سابقة، أن هذه العمليات صارت تتوالى بوتيرة متسارعة ومكشوفة، وأنها تكررت منذ مواجهة شارلوتسفيل في صيف 2017. والأخطر أنها انتعشت في ظل خطاب سياسي فاقع ينبض بالنفور من "الغير" كائنا من كان، أطلقه الرئيس ترامب، أو على الأقل لم يعمل على لجمه وتعطيل تداعياته.
الخطوات والتوجهات التي اعتمدها منذ قراره بمنع دخول مسلمين إلى أميركا وانتهاء بوقف قبول الساعين للهجرة أو اللجوء من بلدان أميركا الجنوبية، أعطت دفعة لقوى اليمين القومي المتشدد في أميركا للخروج إلى الساحة وممارسة إرهابها ضد الأقليات. خلطة ثقافة العنف الموروثة، مع هذا الخطاب، مع غزارة السلاح (أميركا البلد الوحيد في العالم الموجود فيه سلاح بصورة قانونية أكثر من عدد سكانه)؛ وفّرت أرضية خصبة لاستباحة الأبرياء "الغرباء".
القتل بالمفرق والجملة وباء مقيم من زمان في أميركا، يودي بحياة حوالى 30 ألف ضحية سنوياً، وقد تحول إلى محطة شبه دورية تتجول في الولايات؛ تستهدف المدرسة، مراكز التسوق، أمكنة الترفيه والتسلية، أماكن العبادة، مجمعات العمل والمكاتب الخاصة والحكومية... لا موقع محصّناً ضدها. الأسباب متنوعة، تتراوح بين الانتقام واليأس، والهوس الجنوني بالقتل والمرض النفسي. دوامة قاتلة تعايشت أميركا معها بعدما عجزت عن معالجة أسبابها، بالأحرى بعد تعجيزها عن ذلك.
بعد كل مجزرة، ترتفع الأصوات لضبط حرية اقتناء السلاح الفردي كشرط لمحاصرة هذا الوباء، لكن لوبي "جمعية البندقية الوطنية" يستخدم نفوذه مع الكونغرس ليحبط أي محاولة من هذا النوع ويمنع صدور أي قانون يحد من انتشار هذا السلاح. والكونغرس الذي بدا باستمرار وكأنه مرتهن لهذا اللوبي وأرباب صناعة السلاح، يتلطى بنص ملتبس في الدستور يضمن حق التسلح للمواطن. في الحقيقة هو حق جرى تكريسه من خلال التصرف بتفسير النص الذي حكمته ظروف مختلفة تعود إلى زمن تأسيس الجمهورية. تحت هذه الذريعة يتم شراء الوقت لنسيان الموضوع، حتى وقوع مذبحة أخرى، يتجدد معها الحديث عن الحاجة لوضع حد لهذه المأساة - الفضيحة الدورية- من خلال تدابير تحد من كثرة السلاح الذي لا يختلف الخبراء على أنه أحد الأسباب الرئيسية للمشكلة.
ما يثير مخاوف أوساط عديدة، أن تصبح هذه العمليات والأفكار التي تحركها جزءا من المعادلة في عام انتخابي متوتر بما فيه الكفاية. البيئة السياسية مسممة بما سمح بتنامي "الإرهاب المحلي"، بالترافق مع تصاعد نبرة الخطاب القومي المتشنج الرافض لـ"الآخر" المختلف بلون بشرته أو بمعتقده أو بعِرقه. والمتوقع أن يطغى هذا التوجه أثناء الحملة الانتخابية كوسيلة استقطاب: الهوس القومي بـ"النقاء العرقي"، في بلد متنوع مبنية تركيبته على الهجرة والمهاجرين. وفي ذلك مجازفة تقرب من الانتحار إذا يقيت الساحة مفتوحة أمامها. وربما يعود جزء من هذا الهوس إلى خوف هذا التيار من تزايد الخلل في التركيبة السكانية المتوقع أن تنقلب بنسبة 60% إلى 40% لغير صالح البيض مع أواسط القرن الجاري.
في غضون ذلك، يبقى تماهي الكونغرس مع لوبي السلاح، وغياب الرئيس عن لعب دور الإطفائي لكبح جماح القومية العنصرية المنفلتة، وصفة لجولات عنف قادمة وأكثر خطورة.