اختتم في بيروت، الأحد، "المؤتمر السنوي الأول للتاريخ" الذي استمر ثلاثة أيّام، تحت عنوان "دور التاريخ الشفوي، المفهوم والمنهج وحقول البحث في المجال العربي".
ويأتي هذا اللقاء العلمي النادر، احتفاء بـ"الشهادة الشفوية"، كونها تعبيراً مباشراً عن ذاكرات "لم يقيض لها أن تنتقل إلى مرحلة الكتابة، لتتحول إلى تاريخ". ولتأكيد أنّ "الانفجار العربي الكبير" الذي اشتعل، بعد الثورة التونسيّة، يؤسس لـ"مرحلة تاريخيّة جديدة"، لا تقوم جدّتها على "ما سيتمخض عنه (الانفجار) لاحقاً. بل أيضاً لما يكشفه وسيكشفه من "ذاكرات مطموسة ومقموعة ومكبوتة"، وفق التقديم الذي افتتح به، وجيه كوثراني، جلسات المؤتمر بصفته مدير الفرع اللبناني لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، والجهة المنظمّة للمؤتمر.
نقاشات غنية ومحتدمة دارت بين الباحثين حول مكانة "الشفاهة"، وضرورتها في كتابة "تاريخ من لا تاريخ لهم". لكنّ هذه الغاية "النبيلة" معرفياً، وإنسانياً، لا تخلو مقاربتها من عدد من الإشكالات، التي كان أستاذ مادة الأنثروبولوجيا في معهد العلوم السياسيّة في جامعة القديس يوسف في بيروت، شوقي الدويهي، سباقاً طرحها حين قال: "إنّ النصّ التاريخي لا يكتمل نقله إلا بعد "سلسلة من الخيانات".
ويشرح الباحث اللبناني في حديث له مع "العربي الجديد" فرضيّته التي أثارت بعض الجدل في القول: "تصل المعلومات إلى الباحث باللهجة الدارجة، لكن عليه أن يكتبها بالفصحى، ومهما حاول، فإنّه لا بدّ (سيخون) ما قيل له بالعاميّة، التي تتمتع بالنسبة للمتحدث بها، بحساسيّة ونبض خاصين". ويتابع: "ثم يأتي موضوع هويّة الأنثروبولوجي وثقافته، مع ثقافة الشخص الآخر الذي يستمع لها. وسواء أكانا مشتركين في ذات الثقافة أم لا؛ فسيكون هناك نوع من (الترتيب)، و(التوضيب) للحوار الدائر بينهما، حسب الارتباطات بين ثقافتيهما، وهنا تبدأ (الخيانة) الثانيّة". وكلّ هذا، ولم نصل بعد إلى موضوعة "التقديم، والتأخير في عناصر الشهادة"، وهو "خيانة بدوره أيضا" كما يؤكد "الدويهي".
بدورها تقارب الأستاذة المحاضرة في جامعة "وان ستايت" الأميركية، مي صيقلي، الموضوع ذاته عبر ورقتها، حول "توسيع حدود التاريخ: من التاريخ السردي إلى التاريخ التسجيلي"، والتي قرأتها نيابة عنها الباحثة، كاترينا لانج؛ لتطرح سؤالا بقي مفتوحا حتى الجلسات الأخيرة للمؤتمر، وهو: "كيف يمكن لنا كعلماء التحقق من الحقيقة؟".
وتضرب صيقلي مثالاً من تجربتها الشخصيّة في العمل على "التاريخ الفلسطيني"، وتقول: "عندما حاولت رسم خريطة حيفا في الأربعينات، سرت على الأقدام مع رجال من المدينة ذاتها، مستمعة إلى شهاداتهم، وواضعة كل تركيزي على أهميّة الروايات المتدفقة من الذاكرة، والتي سجلت عمليات الطرد والإبعاد، التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في نكبة 1948".
قبل أن تضيف: " علينا كمؤرخين عرب إعادة بناء هذا التاريخ". بالنظر إلى "التباينات" في أرشيفات الغرب في الموضوع الفلسطيني، لجهة "هدم تاريخ فلسطين، وطمس المعلومات المتعلقة به". قبل أن تقرر الباحثة الخلاصة التي توصلت إليها أخيراً: باعتبار التاريخ الشفوي "شعاراً لإعادة بناء التاريخ، ومنصة لنشاط الضمير".
فلسطين، بين تهميشين
بالكاد يمكن إثارة أي جدل نظري حول منهجيّات البحث التاريخي، شفوياً كان أم تقليدياً، دون أن يجد المرء نفسه متخذاً من فلسطين على الفور مسطرة قياس، ومَعيناً للمقاربات. بل وربما، ميزان حكم يمكن الركون إلى نزاهته.
وهنا يبدو الباحث الفلسطيني عبّاد يحيى قد حسم أمره لجهة القول إنّ "أول تاريخ بحثي عربي يهتم بالتاريخ الشفوي كان في فلسطين وعنها".
ويقدّم يحيى في حديثه الى "العربي الجديد"، لفكرته بالقول إنّ "الرواية الصهيونية" كانت هي الغالبة في سرد حدث النكبة لوقت طويل، وهذا ما دفع إلى التأسيس لجهد بحثي فلسطيني بغرض "إثبات ماذا حدث فعلا"، وخاصة في ما يتعلق بـ"قضية التطهير العرقي إبّان النكبة".
لكنّ هذه المحاولات والجهود التي يتحدث عنها يحيى سرعان ما استبدلت "الرواية الرسميّة العربيّة"، بـ"الرواية الرسميّة الصهيونيّة"، التي خلقت بدروها "تهميشات" إضافيّة أخرى.
ومردّ ذلك إلى أنّ مَن كتب تاريخ المهمشين الفلسطينيين "أصلاً" كانوا في بعض الأحيان "نخباً سياسيّة فلسطينيّة، بالغت في الحديث عن دورها النخبوي الثقافي المديني، على حساب الفلاحين البسطاء"، كما يشرح الباحث الفلسطيني الشاب، ممسكا بورقته التي قدّمها للمؤتمر تحت عنوان "التأريخ الشفوي والتهميش المركب: الفلاحة الفلسطينيّة ورواية النكبة".
فالمقابلات التي أجراها يحيى، والشهادات التي جمعها من نساء فلسطينيات من "المغلس"، إحدى القرى الفلسطينيّة المهجرة بعد النكبة، تكشف كثيراً من "أنواع التمييز والتهميش" التي وقعت فيها "الرواية الرسميّة (النظاميّة) العربيّة"، وعلى مستويات عديدة منها، الطبقي، والجندري، والريفي، والحضري.
وهذا الطرح يجد أفقه في محاضرة الباحثة روزماري صايغ، وهي من أهم مؤرّخي فلسطين ورائدة استخدام منهجية التأريخ الشفوي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، والتي ذهبت إلى أنّ التاريخ الشفوي الفلسطيني "رسّخ وعزّز أعمال المقاومة الفلسطينية، على الرغم من إهمال وعدم تعاون المنظمات الفلسطينيّة السياسيّة في موضوع تدوين هذا التاريخ وأرشفته".
وترى صايغ، صاحبة البحث الثمين حول تجسيدات الهوية لدى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، أنّ "التشرد، والعنف المطوّل، وإهمال القيادة الوطنية للثقافة والتاريخ؛ شكّلت العوامل الأساسيّة التي حفزت التسجيل الغزير للذكريات الشعبية".
المواطن المؤرخ
تطرح الثورة التقنيّة الممتدة عبر وسائط الاتصال، العابرة لـ"الأكاديميا" كما الحدود، أسئلة مستجدّة على المحاضرين المتمرسين الذين اجتمعوا في فندق "ريفييرا"، على الساحل البيروتي في "المنارة".
ولئن غابت هذه المادة عنواناً، عن أيِّ من الأوراق العلميّة المُحكّمة الخمسين التي قدّمت على منصّة المؤتمر؛ فإن هذا لا يعني أنّ الموضوع كان خارج نطاق الانشغالات البحثيّة للمؤتمرين.
فهل تساعد الشهادات "التطوعيّة" التي فاض بها الفضاء الافتراضي بعد "الثورات"، و"النزاعات المسلّحة" التي "نفضت" عن المسكوت عنه، عربياً، غباراً "ديكتاتورياً" ثقيلاً؛ في إغناء مرويّات "الشفاهة الرقميّة" الجديدة، ودائماً في سبيل "تأريخ" أقرب إلى الواقع مستقبلاً؟
عن هذا تقدّم المختصة في علم الاجتماع لاورا أوداسو مقاربتها الاستشرافيّة لـ"العربي الجديد" قائلة: "بكل تأكيد". مباركة نزوع "المواطنين" إلى تسجيل "ملاحظاتهم، ووجهات نظرهم من سيرورة الأحداث حولهم"، وهو أمر "سيزيد بلا شك من ذخيرة المعلومات المتوفرة حول كثير من الموضوعات المثيرة للجدل التاريخي والتوثيقي الذي كان الدارسون ينفقون فيه الأيام والليالي، بحثاً عن الأدلّة، أو الروايات التي تعضد افتراضاتهم، نحو كتابة أدق للحدث على يد باحثين متخصصين"، حسب تعبير الباحثة في "مختبر الثقافات والمجتمعات في أوروبا".
وخيط الروايات "الطوعيّة" المتوالية هذه يلتقطه ثانية محدثنا عبّاد يحيى، لينسج عليه رؤيته المستقبليّة للكتابة التاريخيّة التي ستنسف، برأيه، نظريّة أنّ "التاريخ يكتبه المنتصرون". شارحا بالقول إنّ علينا أن ننظر إلى التاريخ كـ"مجموعة سرديات، يمكن لنا في فترة ما الاطلاع عليها جميعاً، والتفكير فيها. ولن يكون هناك مجال لأي رواية منفردة تدعي احتكارها لمسار التاريخ وحقيقة ما جرى".
لكنّ هذا مشروط دائما برأي الدويهي، أستاذ الأنثروبولوجيا السابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، بأن يكون مآل المرويات المتدفقة على "الانترنت" إلى أيدي الباحثين أنفسهم لـ"ضبط المبعثر منها"، من دون أن يعني ذلك بالضرورة "أننا وصلنا إلى الحقيقة".
ويستطرد ضيفنا قائلاً: إن الباحثين قد تحولوا اليوم إلى "رواة" كغيرهم، مؤكداً "إنّ ما نشتغل عليه اليوم هو (Fiction) وأترجمها حكاية، وليس خرافة، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أننا نكذب أو نختلق، أو نقع في "الأدب"". ويختم الباحث المخضرم، راسماً على وجهه ابتسامة ذات مغزى، بالقول: "إنّه من الوهم أن نعتقد أننا في صدد البحث عن الحقيقة.. إن وجدت أصلاً حقيقة".