التقارب الروسي الصيني... المقدمات والآفاق والمحاذير
يدرك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنّ اعتماد بلاده على الاقتصاد الأوروبي لا يعوّض، ولا يمكن تجاهله، لكنّ الأزمة الأوكرانية أدّت إلى إيجاد حالة من الجفاء والتباعد ما بين القارة الأوروبية وروسيا، زاد من أثرها فرض عقوبات اقتصادية عديدة، وإدراج قائمة سوداء، تحظر على شخصيات كثيرة مهمة، مقربة من بوتين، وتعتبر مؤثرة على الصعيد العالمي، ولديها مصالح كبيرة على الصعيد العالمي، دخول دول المنظومة الأوروبية.
على الصعيد الاقتصادي، كانت روسيا تعول كثيرًا على مشروع "دفق الجنوب" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا التي تحصل على 40% من مقدراتها من الغاز الطبيعي من روسيا، وتسعى جاهدة إلى إنجاحه، وفق شروطها الخاصة، التي ترمي في نهاية المطاف لحرمان أيّ طرف ثالث من استخدامه، الأمر الذي يتناقض مع القوانين الأوروبية بشأن خطوط الطاقة العابرة للقارة الأوروبية، عدا عن ذلك، لا يمكن لروسيا بأن ترضى استثمارًا جزئيًا لهذا الخط، ومن أجل التمكن من تحقيق الأرباح المرجوّة، لا بدّ من ملئه، ونقل الغاز، بكامل سعته، على مدار السنة، أخذا في الاعتبار أن خط "دفق الشمال" يعاني كثيرًا من انخفاض كميات الغاز المحملة عبره، والتي لم تتجاوز خلال العام 2013 قرابة 23 مليار متر مكعب، بعيدًا عن الكميات المقرر نقلها بقرابة 55 مليار متر مكعب، ولم تتجاوز قيمة أرباح شركة غازبروم العملاقة لخط دفق الشمال 50 مليون يورو للعام الماضي 2013.
تدرك روسيا حجم المخاطرة المتوقعة من تحوّل أوروبا، وحصولها على بدائل عن الغاز الروسي، كالسماح بالتنقيب لشركة شيفرون الأميركية عن الغاز الصخري، على الرغم من المخاطر المتوقعة على البيئة، وتلوث المياه الجوفية. لذا، سرعان ما قرّر الرئيس بوتين التوجه إلى الصين – الدولة الآسيوية المجاورة في 21 مايو/أيار الماضي، ليلتقي بمثيله سي تسينبين، للتوقيع في أجواء احتفالية وإعلامية باهرة على أربعين اتفاقية ثنائية مشتركة، والإعلان عن اتفاقية هائلة بقيمة 400 مليار دولار، لبيع الغاز الطبيعي الروسي للصين.
تحالف جيوسياسي جديد
لا يزال الوقت مبكّرًا بالطبع للحديث عن تحالف جيوسياسي جديد بين الصين وروسيا، لأن التبادل التجاري ما بين الصين والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا يفوق بكثير التبادل التجاري المتوقع بين روسيا والصين، لكنّ الأزمة الأوكرانية سارعت في هذا التقارب، ويمكن ملاحظة التنسيق بين الدولتين الكبريين بشأن استخدام حقّ النقض لمشاريع القرارات الصادرة عن الهيئة الأممية ضدّ النظام السوري. ووفقًا لمقال الخبير السياسي ورئيس تحرير صحيفة "روسيا والسياسة العالمية"، فودور لوكيانوف، فإن التحالف بين روسيا والصين صعب للغاية، على الرغم من أنّه يبدو للمراقب الخارجي منطقياً، وما يزال الوقت مبكرًا للغاية للحديث عن تحالف جيوسياسي جديد، وفي الوقت الذي تتدخّل روسيا، ليل نهار، في الشأن السوري الداخلي، تشتكي من تدخّل الغرب حيال ضمّها القرم، وبسبب موقفها المتصلب، وتدخلها في الشأن الداخلي للدولة الجارة، أوكرانيا.
كميات الغاز التي اتفق عليها الطرفان كبيرة للغاية، وتبلغ 1040 مليار متر مكعب، سيتم ضخها بمعدل 38 مليار متر مكعب كل عام، وثلاثين سنة متواصلة، من منابع غاز جديدة غير معروفة، بدءًا من العام 2018 وليس قبله، وستدفع الصين 25 مليار دولار مقدًمًا، على أن تستثمر في بناء همزة وصل جديدة، وسيساهم قطاع العمل الصيني على تنمية المناطق الشمالية الروسية المهجورة. وقد استغرق التحضير لهذه الصفقة العملاقة نحو عشرة أعوام، وسارع الرئيس بوتين إلى اتمامها، لإثبات وجود بدائل عن أوروبا وأميركا، إذا ما توقفت القارة الأوروبية عن استيراد الغاز الروسي.
ويقول أندريه أوستروفوسكي، رئيس مركز دراسات الصين في أكاديمية العلوم الروسية، إنّ 98% من الصفقة تمّ فعلا، ولكن، ماذا عن النسبة 2% المتبقية، والمتعلقة بالسعر النهائي للغاز الروسي. يضيف الخبير إنّ لدى الصين بدائل عديدة عن الغاز الطبيعي الروسي، ويمكنها الحصول عليه من تركمنستان وبورما، لذا، استمرت بالتفاوض للحصول على أفضل سعر ممكن، حتى اللحظة الأخيرة، ويتوقع الخبراء أن تبلغ قيمة الغاز الروسي المصدر للصين نحو (350 دولاراً للألف متر مكعب)، وهو أقل من معدل الأسعار التي تدفعها أوروبا. من جهة أخرى، لا يمكن لروسيا ضخّ الغاز إلى الصين على الفور، حال توقف أوروبا عن استيراد الغاز الروسي، لعدم وجود همزة وصل مع الصين حتى اللحظة، ويمكن للصين كذلك أن تستفيد من هذا التقارب، باستثمار أموالها في الشمال الروسي، وتحقيق خطوة جديدة على طريق التقدم والنمو. وترحب الصين باستخدام الغاز الطبيعي، وخصوصاً في شمال البلاد، التي تعاني من اختناق شديد، بسبب استخدام الفحم مصدراً للطاقة، وستتمكن الصين من الحفاظ على بيئتها، بعد الحصول على الغاز الطبيعي الروسي بهذه الكميات غير المسبوقة.
مصالح سياسية اقتصادية مشتركة
يدرك الخبراء والمقرّبون من مراكز السلطة العليا في روسيا أنّ القرارات الاقتصادية لا يمكن أن تتم في معزل عن الرؤية السياسية، وتسير دومًا جنبًا إلى جنب مع التوجهات السياسية المركزية في الكرملين.
يتم التحضير لإبرام الاتفاقيات المشتركة مع الصين، فترات زمنية طويلة للغاية، يدرس فيها الطرفان التفاصيل والالتزامات والتبعات المحتملة حيال توقيعها، والأزمة الأوكرانية ربّما هي التي سارعت في إبرام اتفاقية بيع الغاز للصين، وهناك مشاريع إستراتيجية أخرى، يعمل الطرفان على تحقيقها، في مجال الفضاء، لتصميم طائرات مدنية للطيران الطويل، لمنافسة طائرات الإيرباص والبوينغ، بعد فشل موسكو في إنجاز هذه المشاريع مع الاتحاد الأوروبي والشركات الأميركية، وتعمل موسكو كذلك على إنجاز مشاريع دفاعية أخرى، كصناعة طائرات مقاتلة حديثة من الجيل الثالث، بالتعاون مع الهند.
تقول سارة لين من المعهد الملكي البريطاني للخدمات المتحدة "RUSI" إنّ التعاون الجيوسياسي بين البلدين يمتد لمرحلة تسبق توقيع معاهدة حسن الجوار عام 2001، وإنّ التعاون والتناغم السياسي بين البلدين توضّح، بشكل لافت، إثر اندلاع الأزمة السورية، واستمرار عمليات الذبح وترويع الشعب السوري وتهجيره، بحجّة عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول الأجنبية، وعبّرت الدولتان، مرارًا، عن رفضهما الهيمنة الأميركية في الهيئة الدولية والمنابر الدولية، ووجهتا النقد ضدّ الولايات المتحدة في هذا الخصوص، ما يجعل هذا الاتحاد منطقيًا بينهما.
تجدر الإشارة كذلك إلى أنّ العلاقات الصينية الأميركية تعرّضت للتوتّر أخيراً، إثر الاتهامات التي وجهتها الولايات المتحدة للصين على خلفية عمليات القرصنة الإلكترونية التي مارستها القوات العسكرية الصينية لسرقة التقنيات الأميركية العسكرية الحديثة، كما توجد تخوّفات صينية من تمكن أميركا من إيجاد بؤرة توتر في بحر الصين الجنوبي، حيث تكثر الخلافات الحدودية في ذلك الإقليم، وإمكانية تشكيل كتلة معارضة، تشارك فيها كلّ من اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، وحتى فيتنام، وفقًا لما جاء على لسان أندريه أوستروفوسكي الخبير الروسي في الشؤون الصينية. هذه الأسباب مجتمعة تجعل من المنطقي التأسيس والعمل على إيجاد صيغة اتحاد جيوسياسي صيني روسي.
لا بديل عن الولايات المتحدة
تبلغ قيمة الأصول المالية الصينية في الولايات المتحدة الأميركية قرابة 4 تريليون دولار، وتبلغ قيمة التبادل التجاري الصيني الأميركي خمسة أضعاف التبادل التجاري بين الصين وروسيا، من جهة أخرى هناك تعاون اقتصادي كبير بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وتعتبر أميركا بالنسبة للدولتين قوّة عسكرية قادرة على إيجاد صيغة للتوازن العالمي، ولا بديل عنها في الوقت الراهن، لذا، لن تفكر الصين وروسيا بتجاوز أميركا خوفًا من الوقوع في شرك العزلة الدولية.
وتمتاز السياسة الصينية والروسية بالاستقلالية، ومن الصعب أن تعتمد سياسة أيّ منهما على الأخرى، لكنّهما براغماتيتان، وتوليان المصالح الاقتصادية الأولوية والأهمية، في الوقت الذي يتطلب فيه الاتحاد الأوروبي للتعاون الاقتصادي الجاد، الدفاع عن حقوق الإنسان، وتنشيط دور المؤسسات المدنية، في وقت تعتبر فيه بكين وموسكو هذه القضايا ثانوية، وهدرها لا يشكّل عقبة بالنسبة للسلطة الحاكمة.
هناك إمكانية لتأسيس اتحاد جيوسياسي بين الصين وموسكو، بشكل حذر ومشروط، يعتمد أساساً على المصالح الاقتصادية، مع الأخذ في الاعتبار استقلالية القرار السياسي لكلا الدولتين، والإبقاء على الأبواب مفتوحة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والاستفادة من القدرة الاستهلاكية للمجتمعات العربية، لتسويق منتجاتهما ذات الاستخدامات المدنية والعسكرية.