لا شك أن العراق يعيش فترة عصيبة لم يسبق له أن عرف مثيلاً لها، على صعيد كيانه ووحدة أرضه وشعبه ومؤسسات دولته. وهذا كله لا يُحلّ متى أمكن القضاء على داعش، ففي الواقع إن نشوء ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق وسورية كان نتيجة لمسار كيان يتأسس على قاعدة طوائفية – إثنية عارية مزعزعة الركائز.
على أي حال وحدة العراق مطروحة على بساط البحث. لا يهدف مثل هذا التقديم إلى نقل البحث إلى مكان آخر، بل للتأشير على أهمية الملابسات السياسية وانعكاسها على مختلف نواحي الحياة بما فيها التعليم العالي والعام، خصوصاً متى تم ربط ذلك كله بمئات المليارات المقدرة كلفةً لإعادة الإعمار.
وبالعودة إلى موضوعنا الأساس، فإن معضلات التعليم العالي في العراق كانت حاضرة في عهد المركزية القصوى التي كان يمارسها الرئيس صدام حسين، خلال تلك الفترة كانت معظم الجامعات من نصيب العاصمة. وهو ما لم يستمر حيث جرى تفريع الجامعة الرسمية على المحافظات، ما أدى إلى تبديد الطاقات البشرية والمادية على حد سواء. إذ تحولت الفروع المنشأة – رغم استمرار تبعيتها للمركز - إلى مجرد مؤسسات أكاديمية ضعيفة تفتقد إلى توفر الجهاز البشري الكفوء والإمكانات المادية التي يجب أن ترافق كل جامعة أو فرع حتى، خصوصاً أن هذا التفريع لم يأتِ معبراً عن دراسة جدوى للحاجات.
وزاد الطين بلة أن تعيين الأساتذة خضع لمقياس واضح لا لبس فيه ولا إبهام وهو محضه الولاء للسلطات السياسية وليس للكفاءة الأكاديمية. ترافق ذلك مع إجازة تأسيس الجامعات الخاصة. بفعل التطورات السياسية التي عاشها العراق في السنوات اللاحقة للثمانينيات طغى المنطق التجاري – الطائفي الإثني على ما عداه من منطق أكاديمي. وهكذا نبتت عشرات الجامعات في العاصمة والمحافظات على حد سواء دون أن يرافق ذلك نمو مماثل في صفوف حَمَلة الدكتوراه. ووجدت هذه الجامعات أمامها فقط طلاباً كانوا في الغالب من حديثي التخرج يحملون شهادات الماجستير فقامت بتعيينهم في هيئات تدريسها.
فاقم من مأساوية الوضع ما شهدته البلاد من عمليات فرز طائفية وإثنية بعد حل مؤسسات الدولة. كان الضحايا الأبرز هم الأكاديميون العراقيون ذوو الخبرة في أعمال التدريس والبحث. وكانت حصيلة كل تلك السنوات وصولاً إلى الفصل الأخير الذي نعيشه منها هو اضمحلال الجودة الأكاديمية والكفاءات النوعية التي طالما تميز بها العراق، فمن لم يمت بالسيف مات بالسيارة المفخخة، وإذا نجا بجلده من هذه وتلك غادر لا يلوي على شيء، ما أفرغ البلاد من طاقاتها العلمية بعد هذا الكم من العنف الذي مورس عليهم وعلى الحياة الأكاديمية برمتها. الآن يعيش العراق مفارقة وفرة عددية في مؤسسات التعليم العالي وفقر مدقع في الجامعات بالمعنى العلمي للكلمة.
*أستاذ جامعي
اقــرأ أيضاً
على أي حال وحدة العراق مطروحة على بساط البحث. لا يهدف مثل هذا التقديم إلى نقل البحث إلى مكان آخر، بل للتأشير على أهمية الملابسات السياسية وانعكاسها على مختلف نواحي الحياة بما فيها التعليم العالي والعام، خصوصاً متى تم ربط ذلك كله بمئات المليارات المقدرة كلفةً لإعادة الإعمار.
وبالعودة إلى موضوعنا الأساس، فإن معضلات التعليم العالي في العراق كانت حاضرة في عهد المركزية القصوى التي كان يمارسها الرئيس صدام حسين، خلال تلك الفترة كانت معظم الجامعات من نصيب العاصمة. وهو ما لم يستمر حيث جرى تفريع الجامعة الرسمية على المحافظات، ما أدى إلى تبديد الطاقات البشرية والمادية على حد سواء. إذ تحولت الفروع المنشأة – رغم استمرار تبعيتها للمركز - إلى مجرد مؤسسات أكاديمية ضعيفة تفتقد إلى توفر الجهاز البشري الكفوء والإمكانات المادية التي يجب أن ترافق كل جامعة أو فرع حتى، خصوصاً أن هذا التفريع لم يأتِ معبراً عن دراسة جدوى للحاجات.
وزاد الطين بلة أن تعيين الأساتذة خضع لمقياس واضح لا لبس فيه ولا إبهام وهو محضه الولاء للسلطات السياسية وليس للكفاءة الأكاديمية. ترافق ذلك مع إجازة تأسيس الجامعات الخاصة. بفعل التطورات السياسية التي عاشها العراق في السنوات اللاحقة للثمانينيات طغى المنطق التجاري – الطائفي الإثني على ما عداه من منطق أكاديمي. وهكذا نبتت عشرات الجامعات في العاصمة والمحافظات على حد سواء دون أن يرافق ذلك نمو مماثل في صفوف حَمَلة الدكتوراه. ووجدت هذه الجامعات أمامها فقط طلاباً كانوا في الغالب من حديثي التخرج يحملون شهادات الماجستير فقامت بتعيينهم في هيئات تدريسها.
فاقم من مأساوية الوضع ما شهدته البلاد من عمليات فرز طائفية وإثنية بعد حل مؤسسات الدولة. كان الضحايا الأبرز هم الأكاديميون العراقيون ذوو الخبرة في أعمال التدريس والبحث. وكانت حصيلة كل تلك السنوات وصولاً إلى الفصل الأخير الذي نعيشه منها هو اضمحلال الجودة الأكاديمية والكفاءات النوعية التي طالما تميز بها العراق، فمن لم يمت بالسيف مات بالسيارة المفخخة، وإذا نجا بجلده من هذه وتلك غادر لا يلوي على شيء، ما أفرغ البلاد من طاقاتها العلمية بعد هذا الكم من العنف الذي مورس عليهم وعلى الحياة الأكاديمية برمتها. الآن يعيش العراق مفارقة وفرة عددية في مؤسسات التعليم العالي وفقر مدقع في الجامعات بالمعنى العلمي للكلمة.
*أستاذ جامعي