11 أكتوبر 2018
التنوير بصيغة المؤنث
عمر بن أعمارة (المغرب)
على خطوات الفاضلة، فاطمة بنت محمد الفهري، التي تبرعت بمالها الذي ورثته من أبيها، من أجل بناء أول جامعة في العالم، جامعة القرويين في فاس في القرن التاسع ميلادي عصر الظلمات والسبات عند أوروبا. على خطواتها سارت، في سنة 2003، الفاضلة، فاطمة لمدرسي، إذ تبرعت من مالها الخاص بما قيمته ستة ملايين درهم من أجل بناء "المدرسة الوطنية للتجارة والتسير" في مدينة وجدة حيث تقيم. كما أقدمت هذه السنة (2019)، الفاضلة، نجية نظير، على التبرع من مالها الخاص بما قيمته 12 مليون درهم، من أجل بناء ثانوية وإقامة للتلاميذ مع بعض التجهيزات والإصلاحات. هذه الأعمال الجليلة تستحق الإشادة والتنويه والتشجيع والاحتضان والتحصين.
لا أعلم لماذا فائض الرأسمال "المسلم" لا يتجاوز أفقه حين يتعلق الأمر بالإحسان، الاستثمار في بناء المساجد. وفي أقصى الكرم والعطاء، تضاف المقابر، دون غيرها من المرافق العمومية الأساسية (مدرسة، مستشفى، حديقة، ملعب، مكتبة، مسبح، غابة، طريق، إنارة، إلخ...)؟
ربما القراءة الظاهرية والفهم السطحي والجامد لحديث نبي الإسلام عليه السلام "من بنى لله مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة" وراء ذلك؟ أو العادة الموروثة عن الأجداد (هكذا وجدنا آبائنا يفعلون)؟ أو هجانة هذا الرأسمال وأصوله الريعية أو غير النظيفة (تجارة المخدرات، السرقة، الغش والتحايل، التهرب الضريبي، عدم تسديد ما بذمتهم من حقوق للمستخدمين...) وأيضا غياب وعي الانتماء إلى الوطن وإلى الحياة العصرية المنفتحة على الأفق الإنساني الكوني الراهن؟
لا أحد يجادل أنه كانت للمساجد عبر التاريخ الإسلامي وظائف روحية وحضارية عديدة، منها التعبّد (الصلوات الخمس، صلاة التراويح في رمضان، صلاة الأعياد ...)، إضافة إلى الوظائف السياسية (مشاورات، مؤتمرات وقرارات تهم مصير الأمة). وأيضا هناك دور تثقيفي تعليمي وتكويني في أمور الدين والدنيا، ودور اجتماعي (تآزر وخلق علاقات اجتماعية وأخوية، مساعدات مادية بل حتى كانت توظيف كأمكنة لإيواء بعض المحتاجين وعابري السبيل).
هذه الوظائف التي كانت تغطي جميع المجالات، تقلصت لاعتبارات عديدة منها ما هو مرتبط بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية، إذ أصبحت للسياسة مؤسساتها الخاصة كذلك للمجال الاجتماعي والخيري، وأصبح للتعليم مؤسساته المتعددة، تقليدية وحديثة. كما أن الميدان الديني، أصبح هو الآخر في قبضة الدولة الحديثة ما جعلها تراقبه وتتحكم في تفاصيله، فحتى المساجد أصبحت تحت وصايتها الشاملة، فبعيدا عن الصلاة، لا أنشطة تمارس خارج علم السلطة ومراقبتها والأئمة أنفسهم، إن تحدثوا داخل المساجد بما يتنافى والتوجه الديني وسياسة الدولة، يتم إنذارهم أو حتى توقيفهم وطردهم.
في الوضع الحالي (التحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الإسلامية)، لم تعد للمساجد الأهمية التي كانت عليها في الماضي. نحن لا نقلل من أهميتها، بل فقط نقول لقد تقلصت وظائفها ومهامها لصالح مؤسسات عصرية، وهذا لا ينقص ولا يقلل من مكانتها وقيمتها الدينية والروحية والمجتمعية كأماكن للعبادة.
نعم في دولة ضعيفة كالمغرب، هناك تبذير وإفراط في النفقة على بناء كثرة المساجد، إذ أصبحت تخصّص مئات الملايين من الدراهم في بنائها، وتجهيزاتها التي تضاهي تجهيزات البنوك والفيلات الفخمة من حيث الجودة والثمن (رخام، زليج بلدي، جبص منقوش، خشب منقوش، أليمنيوم من النوع الرفيع، ثريات باهظة الثمن، صباغة جميلة وأفرشة من النوع الثمين تغير كل مرة، فضاء وباحة شاسعة، أئمة نجوم منتقون ومختارون حسب الشروط) سواء من طرف الوزارة المكلفة أو من طرف بعض المحسنين، كما أن هناك تكلف من طرف بعض المواطنين البسطاء في المساهمات مع عدم إيلاء الأولوية لما هو أولوية كالتعليم والصحة والتجهيز. ومن فوق هذا كله، هناك تقصير في التوعية من طرف شيوخ وفقهاء الأمة الناتج عن ارتكازهم على ما هو شعائري وطقوسي في الدين.
الملاحظ في ظل واقع متخلف، مطبوع بسياسات عرجاء تتسم بالاستبداد والارتجالية وسوء التسيير والتدبير، ومع استفحال الفساد الذي ضرب الضرع والزرع. في هذا الوضع العام، المجال الديني، أخذ نصيبه أيضا من الفساد والارتجالية وسوء التدبير، دون أن نتحدث عن الركود وانسداد الأفق الذي أصاب الفقه الإسلامي في شموليته في راهننا وانزلاق جله إلى نقاشات فيما هو شكلي تافه مع استبعاد ما هو جوهري في هذا الدين.
نحن في حاجة ماسة إلى فقه يقول: المدرسة بيت الله، المستشفى بيت الله، الشارع بيت الله، المصنع بيت الله، الإدارة بيت الله، الغابة بيت الله، الحديقة بيت الله، البحر بيت الله، الملعب بيت الله، الحافلة والقطار بيت الله كما أن المسجد بيت الله، والكون كله لله.
نحن في حاجة ماسة إلى فقهاء يقولون: من بنى مدرسة أو مستشفى أو مصنعا أو حديقة... بنى الله له بيتا في الجنة، وذلك على منوال الحديث الشريف المذكور أعلاه.
نحن في حاجة ماسة إلى فقه جديد وفقهاء مجتهدين ومجددين، ونحن في حاجة إلى فقه جريء، فقه واقعي يقول: أركان الحياة خمسة: سكن لائق، صحة جيدة، تعليم مفيد، شغل منتج واعتقاد حر.
فهل نرى كوكبة من الفقهاء والشيوخ يحثون المحسنين ويوجهونهم، وكذلك المواطنين إلى روح الشريعة أي المصلحة معلنين: "المدرسة والمستشفى قبل المساجد في عصرنا؟".
لا تنمية ولا تقدم ولا تحضر دون استحضار الإنسان كجوهر وكمركز وكأفق في أي مشاريع إصلاح حتى عندما يتعلق الأمر بالإصلاح الديني.
وخير ما أختم به هو هذه المقولة للفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط، إذ يقول "إن كرامة الإنسان هي القيمة المطلقة التي لا يمكن التفاوض حولها مع أي سلطة مهما كانت".
ربما القراءة الظاهرية والفهم السطحي والجامد لحديث نبي الإسلام عليه السلام "من بنى لله مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة" وراء ذلك؟ أو العادة الموروثة عن الأجداد (هكذا وجدنا آبائنا يفعلون)؟ أو هجانة هذا الرأسمال وأصوله الريعية أو غير النظيفة (تجارة المخدرات، السرقة، الغش والتحايل، التهرب الضريبي، عدم تسديد ما بذمتهم من حقوق للمستخدمين...) وأيضا غياب وعي الانتماء إلى الوطن وإلى الحياة العصرية المنفتحة على الأفق الإنساني الكوني الراهن؟
لا أحد يجادل أنه كانت للمساجد عبر التاريخ الإسلامي وظائف روحية وحضارية عديدة، منها التعبّد (الصلوات الخمس، صلاة التراويح في رمضان، صلاة الأعياد ...)، إضافة إلى الوظائف السياسية (مشاورات، مؤتمرات وقرارات تهم مصير الأمة). وأيضا هناك دور تثقيفي تعليمي وتكويني في أمور الدين والدنيا، ودور اجتماعي (تآزر وخلق علاقات اجتماعية وأخوية، مساعدات مادية بل حتى كانت توظيف كأمكنة لإيواء بعض المحتاجين وعابري السبيل).
هذه الوظائف التي كانت تغطي جميع المجالات، تقلصت لاعتبارات عديدة منها ما هو مرتبط بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية، إذ أصبحت للسياسة مؤسساتها الخاصة كذلك للمجال الاجتماعي والخيري، وأصبح للتعليم مؤسساته المتعددة، تقليدية وحديثة. كما أن الميدان الديني، أصبح هو الآخر في قبضة الدولة الحديثة ما جعلها تراقبه وتتحكم في تفاصيله، فحتى المساجد أصبحت تحت وصايتها الشاملة، فبعيدا عن الصلاة، لا أنشطة تمارس خارج علم السلطة ومراقبتها والأئمة أنفسهم، إن تحدثوا داخل المساجد بما يتنافى والتوجه الديني وسياسة الدولة، يتم إنذارهم أو حتى توقيفهم وطردهم.
في الوضع الحالي (التحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الإسلامية)، لم تعد للمساجد الأهمية التي كانت عليها في الماضي. نحن لا نقلل من أهميتها، بل فقط نقول لقد تقلصت وظائفها ومهامها لصالح مؤسسات عصرية، وهذا لا ينقص ولا يقلل من مكانتها وقيمتها الدينية والروحية والمجتمعية كأماكن للعبادة.
نعم في دولة ضعيفة كالمغرب، هناك تبذير وإفراط في النفقة على بناء كثرة المساجد، إذ أصبحت تخصّص مئات الملايين من الدراهم في بنائها، وتجهيزاتها التي تضاهي تجهيزات البنوك والفيلات الفخمة من حيث الجودة والثمن (رخام، زليج بلدي، جبص منقوش، خشب منقوش، أليمنيوم من النوع الرفيع، ثريات باهظة الثمن، صباغة جميلة وأفرشة من النوع الثمين تغير كل مرة، فضاء وباحة شاسعة، أئمة نجوم منتقون ومختارون حسب الشروط) سواء من طرف الوزارة المكلفة أو من طرف بعض المحسنين، كما أن هناك تكلف من طرف بعض المواطنين البسطاء في المساهمات مع عدم إيلاء الأولوية لما هو أولوية كالتعليم والصحة والتجهيز. ومن فوق هذا كله، هناك تقصير في التوعية من طرف شيوخ وفقهاء الأمة الناتج عن ارتكازهم على ما هو شعائري وطقوسي في الدين.
الملاحظ في ظل واقع متخلف، مطبوع بسياسات عرجاء تتسم بالاستبداد والارتجالية وسوء التسيير والتدبير، ومع استفحال الفساد الذي ضرب الضرع والزرع. في هذا الوضع العام، المجال الديني، أخذ نصيبه أيضا من الفساد والارتجالية وسوء التدبير، دون أن نتحدث عن الركود وانسداد الأفق الذي أصاب الفقه الإسلامي في شموليته في راهننا وانزلاق جله إلى نقاشات فيما هو شكلي تافه مع استبعاد ما هو جوهري في هذا الدين.
نحن في حاجة ماسة إلى فقه يقول: المدرسة بيت الله، المستشفى بيت الله، الشارع بيت الله، المصنع بيت الله، الإدارة بيت الله، الغابة بيت الله، الحديقة بيت الله، البحر بيت الله، الملعب بيت الله، الحافلة والقطار بيت الله كما أن المسجد بيت الله، والكون كله لله.
نحن في حاجة ماسة إلى فقهاء يقولون: من بنى مدرسة أو مستشفى أو مصنعا أو حديقة... بنى الله له بيتا في الجنة، وذلك على منوال الحديث الشريف المذكور أعلاه.
نحن في حاجة ماسة إلى فقه جديد وفقهاء مجتهدين ومجددين، ونحن في حاجة إلى فقه جريء، فقه واقعي يقول: أركان الحياة خمسة: سكن لائق، صحة جيدة، تعليم مفيد، شغل منتج واعتقاد حر.
فهل نرى كوكبة من الفقهاء والشيوخ يحثون المحسنين ويوجهونهم، وكذلك المواطنين إلى روح الشريعة أي المصلحة معلنين: "المدرسة والمستشفى قبل المساجد في عصرنا؟".
لا تنمية ولا تقدم ولا تحضر دون استحضار الإنسان كجوهر وكمركز وكأفق في أي مشاريع إصلاح حتى عندما يتعلق الأمر بالإصلاح الديني.
وخير ما أختم به هو هذه المقولة للفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط، إذ يقول "إن كرامة الإنسان هي القيمة المطلقة التي لا يمكن التفاوض حولها مع أي سلطة مهما كانت".
مقالات أخرى
19 سبتمبر 2018
10 سبتمبر 2018
02 اغسطس 2018