الجرح الأرمني

03 فبراير 2015
الممثل ريتشارد لورمان في فيلم "الجرح"
+ الخط -
قبل غزو بولونيا، احتدم الجدل بين الضبّاط النازيين عند تقييم إيجابيات الغزو وسلبياته. تابع هتلر الاعتراضات العديدة التي تعالت، كان معظمها متعلّقاً بالضجّة العالمية التي ستنجم عن احتلال جيران أقوياء لبلد جيرانهم. إنها فضيحة، قال أحد المستشارين؛ أكّد هتلر للجميع أن مثل هذه الضوضاء جوفاء، ولن تستمر طويلاً، ودعم حجته بهذا السؤال: "ومن يتذكّر الأرمن؟" 
لا أحد يخصّ الضحية المجهولة بقبر مثلما يُخص الجندي المجهول بالذكرى. ليس التذكّر انتقام المستضعفين، لكن البشر يسجلون غالباً، ثم يكتفون بالتسجيل ولا يتذكّرون حقاً. قُتل أكثر من نصف الأرمن في تركيا؛ ما انفكّت الإبادة البطيئة تحصد أرواحهم طوال عامين، بينما المذبحة الكبرى تطحن أوروبا في الحرب العالمية الأولى، والإمبراطورية العثمانية تتفتت، وأعضاء الرجل المريض تتساقط، فيتناهشها محتلون آخرون تكالبوا على تركة السلاطين. سقوط الإمبراطوريات، مثل نشوئها، واقعٌ في الدم والمقابر الجماعية. مرّات كثيرة سميت الإبادة، حملة مقدّسة لتصفية الكفرة، فالشيطان يقف دائماً في صفّ العدو. طالت قوافل الأرمن العراة الذاهبين إلى الموت، بعد نهب قراهم وإحراقها في الأناضول، أرتال المرضى والمجوَّعين المقيَّدين يقضون عطشاً في الفيافي. كافرات حليقات الرؤوس عُرّين وسُحلن واغتصبن في ساحات القرى تحت شمس النهار. نُسجت مسابح من حلمات الذبيحات. طفت أوصال مقطّعة على صفحة الفرات نحو الجنوب، وعلى ضفاف هذا النهر سار الناجون، قبل شتاتهم الكبير، فلاذ اليتامى والأرامل بالرقّة ودير الزور في سورية، وقصدوا مدناً وقرى أخرى. ترك القتلة لقسوة الطبيعة إتمام عملهم في الإعدام الجماعي، فتكفّل القيظ والعطش والبرد والجوع بالإجهاز على أرمن كثيرين. كانت الإمبراطورية العثمانية المتهالكة مفلسة، ووفّر المجرمون على خزائنها الخاوية ثمن الرصاصات، فذبحوا بالسكاكين ولم تتوقف خناجرهم عن العمل واستخدموا الأشجار لنصب المشانق؛ كان لا بد من تخفيض تكاليف القتل، وفي نفس الوقت زيادة فعاليته وسرعته، حريصين على عدم تبديد الموارد الشحيحة في التخلّص من الضعفاء. الجريمة مهنة. 
أنجز المخرج التركي الألماني فاتح أكين فيلمه الأخير "الجرح"، ملحمة سينمائية جرت أحداثها منذ قرن تقريباً، وشخصيتها الرئيسية ناجٍ من الإبادة الأرمنية فقد مقدرته على النطق، يبحث عن زوجته وابنتيه التوأم، متنقلاً من ماردين إلى رأس العين وحلب وبيروت وصولاً إلى كوبا والولايات المتحدة. بالعودة إلى عصرنا الحالي وجراحه التي لا تزال مفتوحة، نعلم أن في إسطنبول مطاراً اسمه صبيحة غوكجن. كانت صبيحة إحدى الفتيات اللواتي تبنّاهن مصطفى كمال أتاتورك، وكمقاتلة في الجيش التركي جُنّدت تلك الأرمنية اليتيمة في القصف الجوي لبلدة ديرسم الكردية أثناء انتفاضة 1937، وكانت المرأة الأولى التي قادت طائرة حربية في تركيا الحديثة، وربما في العالم.


المساهمون