الجواسيس لا يحبون الروايات
لا يكتفي الجواسيس بقراءة الروايات للتجسس على كتابها، لأنهم لا يعرفون، ربما، أن أهم أسرار هؤلاء الكتاب مبثوثة، بشكل أو بآخر، بين كلماتهم، ولا تحتاج من المرء فطنة إضافية، لكي يكتشفها. عليه فقط أن يعرف كيف يقرأ رواية! لكن، من الواضح تماماً أن هؤلاء الجواسيس الذين يعملون تحت مظلات الأجهزة الاستخباراتية لا يعرفون قراءة الروايات، بقدر معرفتهم بكتابة التقارير السرية، أو ربما تلفيقها أحياناً.
بعد أسابيع قليلة من الكشف عن فضيحة المخابرات البريطانية في التجسس على الروائية البريطانية الحائزة على جائزة نوبل، دوريس ليسنغ، ها هي فضيحة أخرى من النوع نفسه، وضحيتها روائي حائز على جائزة نوبل أيضاً، وإن كان يفوق ليسنغ شهرة.
بطل الفضيحة، هذه المرة، مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، وضحيتها الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز. والتفاصيل الأميركية لا تختلف كثيراً عن التفاصيل البريطانية.
كشفت صحيفة واشنطن بوست عن الفضيحة الجديدة في تقرير عنوانه "الحب في زمن التجسس"، مستفيدة من عنوان إحدى أشهر روايات ماركيز "الحب في زمن الكوليرا"، وكأنها تشير بذلك إلى دناءة ما قامت به الحكومة الأميركية، ممثلة بمكتبها الفيدرالي في التجسس على واحدة من أسمى قيم الحياة على الإطلاق، وهي قيمة الحب التي عبّر عنها ماركيز، في كل رواياته وقصصه القصيرة.
وعلى الرغم من أن بعضهم شبه تلك الفضيحة بـ"ووتر غيت ثقافي"، إلا أن من يعرف طبيعة العلاقة بين ماركيز والولايات المتحدة نظر إلى الأمر باعتباره شيئاً طبيعياً ومتوقعاً جداً. فهذا الروائي الذي لم يخف يوماً، ولا في رواياته، عداوته السياسة الأميركية، خصوصاً تجاه بلاده وكل بلدان العالم الثالث، كان ممنوعاً من دخول الأراضي الأميركية عقوداً، ولم يرفع عنه الحظر إلا بسبب شخصي جداً، يشبه الأسباب التي يتم تداولها في بلاد العالم الثالث، وهي مزاجية السيد الرئيس، فقد كان الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، أحد قراء ماركيز والمعجبين برواياته، خصوصاً "مائة عام من العزلة". ولذلك، وجد نفسه في حرج شخصي أن يبقي الأمر على ما هو عليه، عندما علم برغبة كاتبه المفضل بزيارة بلاده في أثناء فترته الرئاسية. وهكذا، رفع الحظر وعاد ماركيز إلى نيويورك التي كان قد غادرها في بداية الستينيات، بعد أشهر من عمله فيها مراسلاً صحافياً لوكالة الأنباء الكوبية! الغريب أنه عاد يومها من نيويورك، بعد أن فشل في إظهار راديكالية تكفي لإرضاء مسؤولي بلاده، فترك الصحافة قليلاً، منشغلاً برواياته التي أذهلت القراء في العالم، والتي قدمته إليهم دائماً ثوري الروح والهوى والهواية والرواية أيضاً. كما أن كثيراً منها عبر عن عدائه الواضح للإمبريالية في صورتها الأميركية، أما صداقته العميقة بالرئيس الكوبي السابق، فيديل كاسترو، والذي كان يعتبر أهم أعداء أميركيا عقوداً طويلة، فكانت مما لا يمكن إخفاؤه، ولم يكن يريد سيد الواقعية السحرية لمثل هذه العلاقة الغريبة من نوعها أن تبقى في الظل.
فماذا يمكن للجواسيس أن يرصدوا في ملفاتهم السرية من أفكار للكاتب الأشهر في العالم كله، غير ما دونها ونشرها وبثها في كل ما قال وكتب؟
ما نشرته "واشنطن بوست" مما كشف عنها الستار من صفحات في هذه الملفات السرية لا تحمل جديداً لأي قارئ لأعمال ماركيز، ولا تحتمل التصنيف الذي وضعته لها المخابرات الأميركية، باعتبارها "سرية للغاية"، فمهمة الكاتب الحقيقي هتك الأستار وفضح السرائر والأسرار في إبداعاته. ولم يكن ماركيز ممن يقصّر في تلك المهمة، فقد عاش حياته ليروي.. لكن الجواسيس لا يحبون الروايات.