بدورها، تقول مصادر نيابية، تحدّثت إلى "العربي الجديد"، إنّ "التوسّع في احتجاز المعتقلين في زنازين انفرادية، هي سياسة باتت تنتهجها مصلحة السجون المصرية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وعلى وجه الخصوص مع سجناء الرأي، بعد تصاعد حدة الانتقادات الدولية إزاء وسائل التعذيب التقليدية، والتي قد تؤدي إلى الوفاة بعد فترات قصيرة من الاحتجاز". وتشير المصادر إلى أنّ السجناء المحتجزين انفرادياً يُحرمون من أي اتصال لفترات غير قصيرة، ما يلقي بظلاله على مؤثراتهم الحسية والسمعية والبصرية، وحدوث هلوسات في بعض الأحيان، من جراء عدم التواصل مع البشر أو لمس الأشياء، فضلاً عن معاناتهم من نقص الأوكسجين، وانتشار البكتيريا حيث يتواجدون، وتعرّضهم للإغماء في كثير من الأوقات.
ولا يسمح للمحبوسين انفرادياً في مصر بالاتصال بالسجناء الآخرين، أو بالزيارات العائلية المنتظمة، وهو ما ظهر بوضوح في حالة الرئيس الراحل، الذي لم يتلق سوى ثلاث زيارات من أسرته منذ اعتقاله في 3 يوليو/تموز 2013، في أعقاب انقلاب عسكري نفّذه الجيش بقيادة وزير الدفاع آنذاك، رئيس البلاد الحالي عبد الفتاح السيسي.
وفي مايو/أيار 2018، قالت "منظمة العفو الدولية" إنّ "العشرات من المحتجزين المصريين في الحبس الانفرادي يتعرضون عمداً لإيذاء بدني رهيب، بما في ذلك الضرب على أيدي الحراس، وإجبارهم على غمر رؤوسهم مراراً في أوعية مملوءة بالماء، أو ملوثة بالغائط، ما يضاعف من معاناتهم النفسية والبدنية داخل أماكن احتجازهم".
ووفقاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، لا يجوز استخدام الحبس الانفرادي كإجراء تأديبي، إلا باعتباره الملاذ الأخير، غير أن السلطات المصرية تتوسع في استخدام هذا النوع من الحبس كعقاب إضافي للسجناء ذوي الخلفيات السياسية أو الحقوقية، والذين يعزلون عن العالم الخارجي تماماً لمدة تصل إلى 23 ساعة ونصف الساعة في اليوم.
وفي السياق، أفاد تقرير صادر عن لجنة نيابية بريطانية مستقلة مكلفة بالتحقيق في مصير مرسي، في مارس/آذار 2018، بأنّ ظروف سجن مرسي "ترقى إلى مستوى التعذيب حسب القانونين المصري والدولي"، مشيراً إلى أنّ الرئيس الراحل لم يكن يتلقى الرعاية الطبية اللازمة، على الرغم من إصابته بمرض السكري، والتهاب الكبد، ما قد ينتج عنه تدهور سريع في وضعه الصحي، وبالتالي الوفاة المبكرة. كذلك، أرسل مركز "غيرنيكا للعدالة الدولية"، المختص في ملاحقة منتهكي القانون الدولي وقوانين حقوق الإنسان، ومقره لندن، خطاباً إلى مفوض اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في ديسمبر/كانون الأول 2017، يفيد بأنّ "مرسي معتقل انفرادياً منذ سنوات، ولا يختلط بالسجناء الآخرين. ولا أحد يعلم بوضع الزنزانة التي يُسجن فيها، لكن يُرجح أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط التهوية والمساحة، ولا يوجد فيها سرير".
التقرير الدوري
وتستعرض مصر تقريرها الدوري الشامل الثالث أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة نهاية عام 2019، وهو ما يتطلّب من الحكومة المصرية إحراز تقدّم في وقف انتهاكات حقوق الإنسان، قبل عرض سجلها أمام المجلس الأممي، خصوصاً في ما يتعلّق بوقف استخدام التعذيب، ومحاسبة المتورطين في ارتكاب هذه الجريمة.
وكانت الأمم المتحدة اعتبرت في عام 2011 الحبس الانفرادي لمدة طويلة "تعذيباً يجرّمه القانون، حتى وإن كان لفترات قصيرة من الزمن"، منوهةً إلى أنه "غالباً ما يسبب المعاناة النفسية والجسدية أو الإذلال، ويرقى إلى حدّ المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو العقاب. وقد يرقى إلى حدّ التعذيب، إذا ما تزايد مستوى الألم أو المعاناة".
عزلة مرسي
معاناة مرسي تحدّثت عنها وسائل الإعلام الإسرائيلية أيضاً. إذ قال موقع "واللاه" في تقرير نشره يوم الجمعة الماضي، إنّ "مرسي عانى العزلة، وعدم تلقّي العلاج الطبي"، موضحاً أنّ "أي شخص يوضع في الحبس الانفرادي بمثل هذه الظروف، سيصعب عليه البقاء على قيد الحياة". وأضاف الموقع في تقريره أنه "في منطقة طره (جنوبي القاهرة)، يوجد سجن العقرب، حيث يقبع كبار أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في زنازين لا توجد بها أسرّة للنوم". وتابع أنّ "حراس السجن يعتادون على تعذيب النزلاء الذين لا يحصلون على الغذاء أو الدواء، أو المساعدة القانونية"، مشيراً إلى أنّ "الكثير من الجهات ترى أنّ وفاة الرئيس الأسبق مرتبطة بتدهور حالته الصحية داخل السجن، وهو ليس الوحيد الذي مرّ أو سيمرّ بذلك، في ضوء انعدام الشفافية من قبل نظام السيسي".
وشرعت السلطات المصرية في بناء 23 سجناً جديداً بين عامي 2013 و2018، تماشياً مع منهجية التوسّع في الاعتقالات، وغلق المجال العام، والمحاكمات غير العادلة، ليصل عدد السجون المصرية حالياً إلى 54 سجناً، بالإضافة إلى 320 مقر احتجاز داخل أقسام ومراكز الشرطة، فضلاً عن أماكن احتجاز سرية لا يُعرف عددها.
مئات القتلى
ومنذ تنحّي الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في فبراير/شباط 2011 وحتى إبريل/نيسان 2016، رصد تقرير لمركز "دفتر أحوال" الحقوقي المصري، 834 حالة وفاة داخل أماكن الاحتجاز (أقسام شرطة وسجون)، بواقع 235 حالة في 2011، و65 حالة في 2012، و131 حالة في 2013، و172 حالة في 2014، و181 حالة في 2015، و50 حالة وفاة في الثلث الأول من عام 2016.
ووثق المركز 338 حالة وفاة داخل أقسام الشرطة، و255 حالة في السجون العمومية، و149 حالة في مناطق السجون، و20 حالة أثناء الترحيل من المحكمة، و5 حالات في سجون عسكرية. كما قدّر مركز "عدالة" الحقوقي المصري أعداد الوفيات نتيجة الإهمال الطبي داخل السجون المصرية، بنحو 60 حالة بين عامي 2016 و2018، بالإضافة إلى 10 حالات في الربع الأول من عام 2019.
كذلك، أصدرت "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" (منظمة مجتمع مدني مصرية تعمل في بريطانيا)، تقريراً في نهاية العام الماضي، تحت عنوان "خمس سنوات من القهر والإخضاع"، رصدت من خلاله بشكل كمي انتهاكات حقوق الإنسان في مصر منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 وحتى نهاية عام 2018. وأكدت المنظمة أنّ "717 شخصاً قضوا نحبهم داخل مقار الاحتجاز المختلفة، بينهم 122 قُتلوا جراء التعذيب من قبل أفراد الأمن، و480 توفوا نتيجة الإهمال الطبي، و32 نتيجة التكدس وسوء أوضاع الاحتجاز، و83 نتيجة فساد إدارات مقار الاحتجاز".
الرواية الرسمية
وتدّعي السلطات الحاكمة في مصر أنّ عدد المواطنين الذين توفوا داخل السجون والأقسام بشبهات جنائية يُقدرون بنحو 235 شخصاً، فضلاً عن 384 شخصاً نتيجة أسباب طبيعية، و215 شخصاً لأسباب غير معروفة، وذلك في الفترة من عام 2011 وحتى عام 2016.
وقد رفضت هذه السلطات، في وقت سابق، التوصية الصادرة من لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، التي ترصد تنفيذ اتفاقية مناهضة التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة من جانب الدول الأطراف في الاتفاقية، بشأن إنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في ادعاءات التعذيب والإخفاء القسري وسوء المعاملة.
مخالفة الدستور
وبحسب صفحة "الموقف المصري" على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وهي صفحة إلكترونية تشرف عليها مجموعة من الخبراء والسياسيين في مختلف المجالات، فإنّ "فلسفة السجون لا تقوم على الانتقام من الجنائيين أو السياسيين المحتجزين، وإنما على أنّ من يدخلها لا بدّ أن يخرج وهو أفضل حالاً، وأن يكون مفيداً للمجتمع". لكنّ "الوضع الحالي (في مصر) هو أنّ المسجون يخرج ناقماً على المجتمع أكثر، بعدما تعرّض لظلم وقهر أكبر، وحرمان من حقوقه، لذا يكون مرشحاً لارتكاب جرائم أكبر"، بحسب الصفحة، التي نبّهت إلى أنّ "إتاحة الرعاية الصحية للجميع على قدم المساواة أحد العناصر الرئيسية لتحقيق مبدأ الحق في الصحة بشكل عام، الذي كفله الدستور في المادة 18 منه".
كما تشير الصفحة إلى أنّ "التعامل مع السجناء مقياس مهم لمدى احترام أي دولة لمواطنيها"، مستشهدة بالمادتين 55 و56 من الدستور المصري، اللتين تجرمان الحرمان من الرعاية الصحية للمساجين، وتضع مسؤولية على القضاء في التأكد من هذا الأمر، باعتبار أنّ كل السجون تخضع للإشراف القضائي من الناحية القانونية. وتضيف الصفحة "على الرغم من أنّ لائحة تنظيم السجون تنصّ على وجود طبيب في كل سجن، إلا أنّ هذا الطبيب غالباً ما يكون موجوداً فقط في أوقات العمل الرسمية، وغير متوافر دائماً لأي حالة طوارئ. وفي معظم السجون المصرية يكون الممرض هو من يصف الدواء للمساجين من دون إشراف من الطبيب، فضلاً عن عدم وجود أطباء من تخصصات متنوعة".