كان يوم 14 أغسطس/آب 2013، الذي شهد مذبحة فض قوات الجيش والشرطة المصريين اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، في ميداني رابعة العدوية والنهضة، تاريخاً فاصلاً في مسلسل الحراك الثوري المناهض للانقلاب العسكري الذي وقع في 3 يوليو/تموز من العام نفسه؛ فقد فرضت "بشاعة" المذبحة واقعاً جديداً أثّر، من دون شك، على الحراك المناهض للانقلاب. فبعد أن جابت المسيرات شوارع بالغة الحيوية في القاهرة والمحافظات ووصلت لمناطق حصينة مثل وزارة الدفاع ومقار جهاز أمن الدولة المنحل والاستخبارات الحربية والمنطقة الشمالية العسكرية في الإسكندرية، تراجع الحراك نسبياً بعد المذبحة، بعد أن حالت التعزيزات الأمنية دون وصول المتظاهرين إلى هذه البؤر.
في 14 أغسطس/آب، استقبل ميدان رابعة العدوية، شرقي القاهرة، الذي اعتصم فيه أنصار مرسي منذ 28 يونيو/حزيران 2013، مسيرات قادمة من ميدان رمسيس، القريب من وسط القاهرة، وضاحية حلون، مروراً بطريقي صلاح سالم والنصر، قبل وقوع مذبحة الفض. كما انطلقت مسيرات من الميدان باتجاه وزارة الدفاع، ومقر جهاز أمن الدولة المنحل في مدينة نصر، ومقر الاستخبارات الحربية في ضاحية مصر الجديدة.
ظلت تلك الشوارع والميادين ساحة للتظاهرات السلمية الحاشدة، التي نظمها مناهضو الانقلاب حتى صباح يوم الفض الذي شهد انطلاق مسيرة من ميدان رمسيس؛ لإغاثة المعتصمين المُحاصرين في ميدان رابعة بعد أن تواردت أنباء عن بدء عملية الفض وسقوط قتلى. ولكن لم يتمكن المشاركون في المسيرة من الوصول، فقد تصدت لهم قوات الأمن أعلى جسر 6 أكتوبر في منطقة امتداد رمسيس الذي شهد مذبحة أخرى بالتزامن مع مذبحة رابعة، وكانت تلك المسيرة هي الأخيرة التي مرت عبر هذا الطريق الذي طالما شهد مسيرات صباحية ومسائية من وإلى الميدان بعد الانقلاب.
أما المذبحة التي شهدها ميدان رمسيس، في وسط القاهرة، يوم 16 أغسطس/آب الماضي، فلم تكن أقل بشاعة من تلك التي حدثت في رابعة والنهضة، إذ حاصرت قوات الجيش والشرطة المتظاهرين الذين نظموا مسيرة انطلقت من حي مدينة نصر صوب الميدان، بعد يومين من مذبحة الفض داخل مسجد الفتح، المطل على الميدان.
وكان مئات المتظاهرين قد اضطروا للاحتماء بالمسجد هرباً من نيران القناصة الذين اعتلوا جسر 6 أكتوبر، وتواجد بعضهم في طائرات حلّقت على ارتفاع منخفض في سماء الميدان لاستهداف كل من جاء للتظاهر.
ليلة كاملة قضاها المتظاهرون داخل المسجد، الذي لم تسلم مئذنته من طلقات الرصاص بدعوى وجود أسلحة داخلها، وتم اعتقالهم بعدما اقتحمت قوات الأمن معززة بعناصر من البلطجية، المسجد.
ويقول أحد المشاركين في المسيرة لـ"العربي الجديد"، إن "حصارنا دام داخل المسجد، طوال هذه الساعات، ثم تم اقتحام المسجد بهذا العنف لإخراجنا بالقوة واعتقال المئات، وكان ذلك متعمداً لإفشال أي محاولة لتنظيم اعتصام جديد بعد فض اعتصام رابعة".
ويلفت إلى أن "الوضع كان مأساوياً طوال ساعات الحصار، إذ لم نتمكن من إخراج جثامين الشهداء خارج المسجد، بعدما استعانت قوات الأمن ببلطجية انتشروا في محيطه".
إصرار الثوار على مواصلة حراكهم دفع أول رئيس مُعيّن بعد الانقلاب، عدلي منصور، لإصدار قرار بقانون لتنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية. وألزم القانون مَن يريد تسيير موكب أو تظاهرة، إبلاغ قسم أو مركز الشرطة الذي يقع في دائرته بمكان بدء سير الموكب أو التظاهرة.
وشدد القانون على ضرورة أن يتضمن الإخطار خط سير التظاهرة وموعد بدئها وانتهائها، والغرض منها والشعارات التي سيرفعها المشاركون فيها، وأسماء المُنظّمين ومحل إقامتهم ووسائل الاتصال بهم، وهو ما قوبل بسخرية المناهضين للانقلاب، ووصف أحدهم بنود القانون بـ "العبثية"، مشيراً إلى أن "هذا يعني ذهاب قوات الأمن لاعتقال منظمي المسيرة من بيوتهم قبل بدئها".
أمام القمع على الأرض وعبر القوانين، لجأ الثوار لتكتيكات جديدة في الحراك الميداني لإنهاك قوات الأمن، في معركة يدركون أنها "طويلة" وشبيهة بـ"حرب الاستنزاف"، بحسب تعبير أحدهم، وفي الوقت نفسه، تقلّل من فرص سقوط قتلى أو وقوع المشاركين فيها في قبضة الأمن، وهي تظاهرات "الفراشات" أو "العفاريت". تحركات "طيارة" تستغرق ثلث ساعة على أقصى تقدير، لا يتم الإعلان عن مكانها أو موعد البدء حتى لا يتم استهدافها أمنياً.
ويقول أستاذ العلوم السياسية، عصام عبد الشافي، إنه "لا يجب تقييم الحراك الثوري المناهض للانقلاب بمعزل عن عدة اعتبارات، أهمها حجم التضحيات التي قدمها مناهضو الانقلاب والتي تمثلت، وفق معظم التقديرات، في نحو عشرة آلاف شهيد، وأربعين ألف معتقل وثمانين ألف مُصاب و250 ألفاً بين مشرد ومطارد".
ويلفت عبد الشافي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى "بشاعة الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها الانقلاب والتي لم تفُتّ في عضد المناهضين، ولم تحل دون فعالياتهم شبه اليومية، في الوقت الذي يستمدون فيه كل يوم مزيداً من القوة في ظل تراجع مؤيدي الانقلاب".
وعن تأثير المذبحة على الحراك، يقول إنها "جعلت من الصراع بين الانقلاب ومناهضيه، صراع وجود، لأنها خلقت ثأراً ودماء تستوجب القصاص من كل من تورط فيها".
ويؤكد عبد الشافي ضرورة أن "يُظهر الحراك الثوري، النظام أمام نفسه وشعبه والعالم، في صورة العاجز وغير القادر على السيطرة، عاجز عن حفظ الأمن كما هو عاجز عن تقديم الخدمات الحكومية للشعب، ليزيد السخط الشعبي أكثر كلما شعر بعجز وفشل وفساد النظام".
ويشدد عبد الشافي على "ضرورة بناء شبكات ثورية وكسب أنصار جدد للثورة"، متسائلاً "لماذا لا نؤسس جهازاً أقرب لأجهزة الاستخبارات تشكّله مجموعات صغيرة من الثوار في مناطق سكنهم وعملهم لمعرفة من هم أعداء الثورة الفاعلين في المنطقة؟ ما هي دوافعهم؟ هل يمكن جذبهم بنفس الدوافع التي جعلتهم يحاربون الثورة؟ من هم البلطجية؟ وهل يمكن تحييدهم؟".
ويدعو "لتشكيل فريق ردع ثوري لتوثيق جرائم ضباط الشرطة والجيش والبلطجية، ونشر صورهم وأدلة إدانتهم وعناوين سكنهم وعملهم؛ ليعلموا أن الدماء والأعراض خط أحمر من يتخطاه يعرض نفسه لخطر شديد".
ورداً على سؤال حول جدوى التمسك بمطلب عودة مرسي وسط تعالي الأصوات المطالبة باستغلال حالة السخط الشعبي تجاه الحكومة للتقشف، يرى عبد الشافي أن "الأمرين مهمان ومطلوبان: التمسك بعودة مرسي مهما كانت طبيعة أو مدة هذه العودة، والاستفادة من السخط الشعبي، هذا إذا كان هناك سخط شعبي، تجاه القرارات الانقلابية حول الأسعار والدعم وغيرها".
وعن انعكاسات تشكيل "المؤتمر الثوري المصري"، في العاصمة التركية، الجمعة الماضية، على المشهد، يعرب عن "دعمه أي عمل من شأنه تنسيق وتوحيد الجهود الموجهة ضد الانقلاب لضمان التقارب وتوحيد الصف، ولكن الأمر يتوقف على قدرة الكيان الجديد على احتواء تيارات أوسع وتجنبه سلبيات التحالفات والبيانات والائتلافات التي سبق تأسيسها، والترويج الإعلامي الواسع لنشاطاته وتحركاته".