04 نوفمبر 2024
الحركة النقابية التونسية إلى منعرج جديد؟
تزامناً مع إعلان تركيبة المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، على إثر مؤتمره الثالث والعشرين، وهو الثاني بعد ثورة 2011، انطلقت شهادات ثلةٍ من النقابيين في نطاق جلسات الاستماع إلى ضحايا الاستبداد التي تنظمها هيئة الحقيقة والكرامة. وكان اختيار التوقيت عن سابق درايةٍ وتخطيطٍ، خصوصاً إذا ما أضفنا إليهما حدثاً آخر، تحييه البلاد في الوقت نفسه، وهو ما عرف عادة بـ "أحداث الخميس الأسود" التي راح ضحيتها، في شهر يناير/ كانون الثاني 1978، عشرات النقابيين والمواطنين، علاوة على مئات الجرحى والمعتقلين في أول صدام دموي مفتوح بين النظام الحاكم (بورقيبة) وأعرق منظمة نقابية في العالم العربي وأفريقيا (1946). وكانت انتفاضة النقابيين آنذاك لرفض الهيمنة التي بسطها بورقيبة، منذ مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1964، على المنظمة، حين تم إقرار "إلحاق" الاتحاد العام التونسي للشغل بحزب الدستور. لا شك أن الرأي العام التونسي كان عيناً على نتائج المؤتمر وعينا أخرى على الشهادات المؤثرة والمؤلمة التي سردت أدق تفاصيل التعذيب التي تعرّضت له القيادات النقابية إبّان اعتقالها، أو سجنها، وقد رواها من ظل حياً أو أقارب من فارقونا.
لا أحد ينكر أن الرأي العام هذا ظل مشدوداً، خلال الأيام الأربعة للمؤتمر، إلى هذا الحدث، وربما لم يكن معنياً بمضمون اللوائح التي صدرت عنه، فهي، حسب رأيه، ستشكل امتداداً لتراثه الفكري والنقابي، ولن يتوقع أن يصدر المؤتمر أشياء تخرج عن مألوف أدبياته في قضايا اجتماعية ووطنية، وحتى دولية، عديدة، يصرّ الاتحاد أن يكون له موقف منها. ونعتقد أن ما كان يثير هذا الرأي العام أكثر من غيره نتائج الانتخابات التي أفرزت، في النهاية، فوز "القائمة التوافقية" (13 عضوا) بشكلٍ كامل، في مناخٍ من التنافس الشرس الذي خاضته مع قائمةٍ أخرى، جمعت قيادات نقابية مركزية وجهوية ذات وزن مهم، وقد تكون المنظمة النقابية قد استفادت من مناخ الديمقرطية الذي هبّ على البلاد بعد الثورة. وقد شهد المؤتمر، بعد 71 سنة من تأسيسه، صعود أول امرأة إلى أعلى هيئة قيادية في الاتحاد، وتلك مفارقةٌ ظلت تحرج القيادات النقابية وقواعدها، وتحوم جلها حول ترسّب الثقافة الذكورية في المنظمة النقابية، والحال أن القواعد النسائية تتجاوز النصف أحياناً في بعض القطاعات.
في هذا المناخ المثير والمشوّق في آن، أكدت الشهادات التي تابعها التونسيون أن المعركة
تفيد الشهادات التاريخية لبعض القيادات النقابية التي سجنت، ومنهم خير الدين الصالحي ومحمد شقرون وغيرهما، من دون الخوض في تفاصيلها الكثيرة والدقيقة، بأن استقلالية الاتحاد، وهي عنوان معاركه العديدة التي خاضها، لم تكن تعني بالضرورة تجذّر الديمقراطية داخل هياكل المنظمة النقابية، فلقد أشاروا إلى الطابع التسلطي أحيانا للزعيم النقابي الراحل، الحبيب عاشور، نفسه، على الرغم من خصاله العديدة، ومنها الشجاعة والجرأة والقدرة على التعبئة والمناورة. كان الرجل مشبعاً بقيم السلطة الأبوية، ولعل هذه الثقافة لا تزال مترسخة في الاتحاد، وإن بأشكال أخرى ممزوجة مع بيروقراطية صارمة وكثير من ثقافة الكتل المهنية والأيدولوجية الحزبية.
رحل عاشور ولم ترحل العاشورية، ذلك أنه ما زال للتيار العاشوري حضور قوي داخل الهياكل المختلفة للاتحاد، ودليل ذلك صعود نور الدين الطبوبي أمينا عاما للاتحاد، وهو المنسوب إلى هذا التيار بالذات، فالرجل لا ينتمي، بوضوح، لأي تيار سياسي، إنما ينسب إلى التيار الذي أسسه الراحل الحبيب عاشور، علما أن لليسار التونسي حضورا لافتا في الاتحاد، إضافة إلى التيار القومي في مقابل حضور ضعيف للإسلاميين، لاعتبارات عديدة، منها التاريخي ومنها الأيديولوجي.
لا تعرف عن الطبوبي مواقف سياسية علنية، وهو على مسافة واحدة من الفرقاء السياسيين،
بعيداً عن هذه الأجواء الاحتفائية، سيكون الاتحاد العام التونسي للشعل، الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 2016، والذي ساهم في تجنيب ثورة تونس مخاطر الاحتراب الأهلي، أمام اختباراتٍ عسيرةٍ، لا ندري إن كان يعلم حجمها وتقدير تبعاتها، وهي التي لن تحدّد، في اعتقادنا، ملامح الفترة المقبلة من العمل النقابي، بل ستحدّد أيضاً مصير هذه الديمقراطية الهشّة التي يتربص بها تنامي البطالة والإرهاب، وكثير من مشاعر الخيبة التي تعصف بشبابٍ لم تزده الثورة غير البؤس.
يتطلع جزءٌ مهم من النخب التونسية والتونسيين أن يتفرغ الاتحاد، في المدة المقبلة، لملفات عديدة، ظلت معلقة، وهو الذي ظل منهمكا حد الإجهاد في متابعة مجريات اليومي: المطلبية وإطفاء الحرائق الاجتماعية، وحتى السياسية، الناجمة عما ذكرناه من صعوبات اقتصادية واجتماعية. وأعتقد أن البيان الذي توجه به نقابيون جامعيون إلى المؤتمرين، ونشرته صحف تونسية، يلخص أهم هذه القضايا العالقة: ترسيخ الحوار الاجتماعي، والابتعاد عن منطق المغالبة، ضمن رؤية جديدة للعقد الاجتماعي، تضع البلاد خارج منطق الهدنة الاجتماعية التي "تشترى مقابل زيادة في الأجور"، التخلي عن ثقافة التطاحن الطبقي، ومعاداة الاستثمار الخاص، باعتباره عدوا للطبقة العاملة، احترام الدولة ومؤسساتها، خصوصا وقد لوحظ، في السنوات القليلة الماضية، سعي بعضهم إلى استغلال ضعفها، لتحقيق أكثر ما يمكن من مكاسب قطاعوية ضيقة، حتى ولو على حساب القانون، وأخيراً ترسيخ الديمقراطية والحوسبة داخل مختلف الهياكل النقابية.