الحياة التي كنت فيها شاعراً

30 نوفمبر 2014
(تصوير: تيموثي غرينفيلد ساندرز)
+ الخط -

[رحل عن عالمنا أمس الشاعر الأميركي مارك ستراند (1934 ـ 2014). ولد ستراند في كندا لأبوين أميركيين، وصدر له العديد من الكتب من بينها "رجل وجمل" (2006)، و"عاصفة المرء الثلجية" (1998) الذي فاز بجائزة بوليتزر، و"الميناء المعتم" (1993)، و"حياة مستمرة" (1990)، و"أسباب للانتقال" (1968). ومن أهم كتبه صعبة التصنيف كتاب "الأثر" الذي أوشك أن يحصل في السبعينيات على جائزة بوليتزر لولا أن رئيس لجنة التحكيم اعترض لأنه "مكتوب بالنثر". ثم صدرت له أعماله الكاملة محتوية كتبه من 1968 إلى 2012. ترجم إلى الإنجليزية أشعاراً لرفائيل ألبرتي، وكان "أميراً لشعراء" الولايات المتحدة ومستشاراً شعرياً لمكتبة الكونجرس ومستشاراً ورئيساً لأكاديمية الشعراء الأميركيين، وأستاذاً للأدب الإنجليزي والمقارن بجامعة كولومبيا]


دائماً

إلى تشارلز سيميك


دائماً في آخر النهار
وفي ثيابهم المجعَّدة،
وفي جلستهم حول مائدةٍ
يضيئها مصباحٌ وحيد،
كان الناسون العظماء يعملون بجد،
يُميلون رؤوسهم إلى جانب ويغمضون
فيختفي بيتٌ،
وبعده رجلٌ بفنائه وزهوره كلها.
قطّب الناسون حواجبهم.
فراحت فلوريدا
وسان فرانسيسكو
فلم يبق فيها
غيرُ ندوب صغيرة مضيئة في الخليج
تركتها زوارق القطر وسفن البضائع.
أشعل أحد الناسين ثقاباً
فراح خرز المصابيح
المعقودُ على ضفتي نهر نيويورك.
ملأ آخر كأسه
فكانت نهاية جموع المساء
تحت مصابيح الشوارع الصفراء الكبريتية
ثم بلغاريا
فاليابان
فقال واحد "متى يوقف هذا؟"
قال آخر "عمل شاق كهذا
يلاحق مصائر كل شيء معلوم"
وقال الثالث
"فليسقط الحجر الأخيرُ
وليبق للخيال
صفرُ الكمال الباردُ
ولا شيء غيره".
راحت أميركا الشمالية
فالجنوبية،
وراح مثلهما القمر.
سعل أحد الناسين العظماء.
تثاءب آخر.
نظر ثالث من النافذة
حيث لا عشب
ولا شجر
حيث لا شيء في كل مكان
غير وهج الأمل.


حصانان

في ليلة دافئة من يونيو
مضيت إلى البحيرة فجثوت على أربع
وشربت كما يشرب حيوان.
وجاء حصانان بالقرب مني وشربا.
قلت "مذهلٌ ولكن
من يصدق هذا؟"
أخذا بين الحين والآخر ينظران إليَّ
فيصهلان ويومئان.
شعرت أنني لا بد أن أجيب
فصهلت، ولكن في خفوت،
كأنما لا أريد أن يسمعاني.
شعرا بتحفظي، فابتعدا قليلاً.
ثم خطر لي أنهما ربما كانا يعرفاني
في حياة أخرى،
في الحياة التي كنت فيها شاعراً.
ففي ذلك الماضي
في ذلك الزمان الغامض
حين لم تكن لشهوتنا من حدود،
كنا نبدّل أشكالنا
بعدد ما في السنة من أيام
تقريباً.


أكل الشعر

يسيل الحِبر من زاويتي فمي.
لا سعادة مثل التي أشعرها
وقد كنت للتو آكل شعراً.

أمينة المكتبة لا تصدق ما تراه.
لها عينان حزينتان
وتمشي ويداها في جيبي فستانها.

القصائد راحت.
والنور خبا.
والكلاب على سلم الطابق تحت الأرضي
صاعدة.

تدور أعينها في محاجرها
وذيولها الشقراء تحترق كالفراشي.
أمينة المكتبة المسكينة تبدأ في الدق بقدميها والبكاء.

هي لا تفهم.
وحينما أجثو على ركبتي وألعق يدها،
تصرخ.

أنا الآن إنسان جديد
أزمجر فيها وأنبح.
أعدو في فرح وسط العتمة الكُتُبِيَّة.


رجل وجمل

عشية عيد ميلادي الأربعين
كنت جالساً أدخن في شرفة بيتي
ومن حيث لا أدري
مرَّ بي رجل وجمل.
في أول الأمر
لم يقل أيهما أيَّ شيء
ولكن
وهما يمضيان من الشارع
ومن البلدة
شرعا يغنيان.
ولم أزل إلى الآن حائراً
في كنه ذلك الذي كانا يغنيان
لم تكن الكلمات مميزة
واللحن كان مفرطاً في الزخارف
يعيي التذكر.
إلى الصحراء مضيا
وصوتهما يعلو
كصوت غربلة الرمل
إذ تعصف الريح به.
بدا لي سحر غنائهما
ذلك الخليطُ الغامض من رجل وجمل،
بدا لي صورة مثلى
لكل علاقة غير معهودة
بين اثنين.
أكانت تلك هي الليلة التي طال بي انتظارها؟
كنت أريد أن أصدق أنها هي،
لكن لحظة أن كانا يتلاشيان
توقف الرجل والجمل عن الغناء
وسارعا يرجعان إلى المدينة.
وقفا أمام شرفتي
شَخَصَا إليَّ بأعين دقيقة، ثم قالا
"لقد خرّبتَها. لقد خربتَها إلى الأبد".


ترجمة: أحمد شافعي

المساهمون