في الظاهر أعلن الجيش "تأييده لمطالب الشعب المشروعة للحفاظ على الوطن ومكتسباته وطموحات شعب مصر العظيم"، فكان بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة رقم 1. ثم أظهر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد ذلك "انحيازاً للشعب" منذ يوم 28 يناير، ما أكسبه ثقة بين المتظاهرين في ميدان التحرير، لكن حقيقة ما حدث على الأرض تجزم بأن الجيش لم يكن سعيداً بما حدث في الخامس والعشرين من يناير.
موقعة الجمل
بعد أيام قليلة من 28 يناير، وتحديداً في 2 فبراير/شباط، سمحت قوات الجيش التي كانت موجودة على أطراف ميدان التحرير بدخول قوافل البلطجية، الذين اعتلوا ظهور البغال والجمال والحمير إلى ميدان التحرير حيث الثوار، فكانت المعركة الشهيرة التي سقط خلالها 11 قتيلاً من المتظاهرين وألفا جريح على الأقل.
كان ذلك الهجوم محاولة يائسة من رجال الرئيس المخلوع حسني مبارك آنذاك، بالتنسيق مع المجلس العسكري، للانقضاض على المتظاهرين في ميدان التحرير وإرغامهم على إخلاء الميدان حيث كانوا يعتصمون. وكان من بين المهاجمين مجرمون خطرون تم إخراجهم من السجون للتخريب ومهاجمة المتظاهرين.
وبحسب ما أكده عسكريون سابقون لـ"العربي الجديد"، فإن الأوامر صدرت من قيادة المجلس العسكري إلى قيادات الجيش الميدانية على الأرض بالسماح للبلطجية بالهجوم على المتظاهرين في ميدان التحرير، وبالفعل قام البلطجية بالهجوم على المتظاهرين بالحجارة والعصي والسكاكين وقنابل المولوتوف. وامتطى رجال آخرون من البلطجية الجمال والبغال والخيول وهجموا بها على المتظاهرين وهم يلوّحون بالسيوف والعصي والسياط، فسقط الكثيرون جرحى وبعضهم قتلى. وتجددت الاشتباكات مرة أخرى في اليوم التالي في 3 فبراير، بين البلطجية والمتظاهرين العزل، مما أدى إلى سقوط بعض القتلى بالرصاص الحي ومئات الجرحى.
كشوف العذرية
لم تكن موقعة الجمل سوى حلقة من حلقات المسلسل الذي نفذه الجيش ضد الثورة، إذ إنه بعد خلع مبارك، جرت في ميدان التحرير وقائع جريمة أخرى وهي "كشوف العذرية"؛ إذ قامت قوات الجيش بالكشف قسراً على عذرية 17 متظاهرة ومدافعة عن حقوق الإنسان، بعد القبض عليهن في ميدان التحرير واحتجازهن وضربهن. وتعرضت سبع نساء منهن للتفتيش الذاتي مع تجريدهن من ملابسهن وتهديدهن بتوجيه تهم دعارة لهن. وقالت إحدى الفتيات وتدعى سلوى الحسيني، وكانت تبلغ من العمر وقتذاك 20 عاماً، في شهادة لمنظمة العفو الدولية إنه "بعد اعتقالها ونقلها إلى سجن عسكري في الهايكستب (شمال القاهرة)، أُجبرت هي وكل النساء الأخريات على خلع كل ملابسهن... لكي تقوم حارسة امرأة من السجن بتفتيشهن في غرفة ببابين مفتوحين ونافذة". وأضافت الناشطة أنه "أثناء هذا التفتيش كان جنديان ينظران داخل الحجرة ويلتقطان صوراً للنساء العاريات".
كما قالت الناشطة سميرة إبراهيم في الفيديو الذي وثّقته منظمة "هيومن رايتس ووتش"، إن لواءً في الجيش قال لآخر، وهو يشير إليها هي وزميلاتها من المتظاهرات المعتقلات "البنات دي إحنا عارفينها، دول بتوع مظاهرات، إحنا هنروحهم ونخليهم مينزلوش التحرير تاني، إحنا جايبنهم من بيت دعارة"، كتهديد بتلفيق تهم ممارسة الدعارة إليهن.
وبعد أن ذكرت صحيفة "الأهرام" المصرية يوم الأربعاء 2 يونيو/حزيران 2011، أن مسؤولاً عسكرياً رفيعاً، لم تكشف عن هويته، نفى تعليقات عن قيام القوات المسلحة بإجراء فحوص عذرية لمتظاهرات في مارس/آذار، خرج مدير المخابرات الحربية آنذاك اللواء عبدالفتاح السيسي، تحت الضغط الشعبي والإعلامي، ليؤكد الواقعة ويبررها في تصريحات بصفته عضواً في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قال فيها إنه "تم إجراء اختبارات عذرية لحماية الجيش من اتهامات محتملة بالاغتصاب"؛ لكن بعدها ادّعى عسكريون أن الكشوف كانت تصرفاً شخصياً من الطبيب.
ضباط 8 إبريل
لاح اسم السيسي في الأفق لأول مرة مع صدور تصريحاته حول "كشوف العذرية"، إلا أنه وبحسب ما أكدته المصادر العسكرية، فإنه كان العقل المدبر للعديد من الإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري إبان الثورة وبعدها. ومن أخطر تلك العمليات، كما قال عضو سابق في المجلس لـ"العربي الجديد"، كانت عملية "ضباط 8 إبريل" الذين نزلوا إلى ميدان التحرير، والتي كان السيسي صاحب فكرتها ومسؤولاً عن تنفيذها.
والشائع أن ضباط 8 إبريل هم مجموعة مكوّنة من 21 ضابطاً في القوات المسلحة المصرية، شاركوا في تظاهرات جمعة 8 إبريل/نيسان 2011، والتي عُرفت باسم "جمعة المحاكمة والتطهير"، لأنهم "شعروا بأن المجلس العسكري وخاصة المشير محمد حسين طنطاوي يتلاعب بمطالب الثورة، ويتعمّد تصفيتها معنوياً ومادياً، فقرروا الانضمام إلى المتظاهرين في ميدان التحرير يوم 8 إبريل 2011". لكن الحقيقة التي أكدها المصدر العسكري تشير إلى أن تلك العملية كانت من تخطيط وتنفيذ المخابرات الحربية بقيادة اللواء السيسي بهدف التسلل وسط المتظاهرين وإقناعهم بأنهم متعاطفون معهم، ثم الحصول منهم على معلومات ونقْلها إلى القيادة العسكرية، ومحاولة التأثير على قرارات المعتصمين في الميدان.
أُلقي القبض بعد ذلك على هؤلاء الضباط في فض "عنيف" لاعتصامهم مع أهالي الضحايا والآلاف من الثوار، وشاركت في الهجوم قوات من الشرطة العسكرية والمظلات، وظهرت معهم قوات الأمن المركزي لأول مرة منذ اختفائها يوم 28 يناير 2011. اتُّهم هؤلاء الضباط بمخالفة قوانين القوات المسلحة التي تمنع التظاهر بملابس الجيش الرسمية، وتمنع أي فرد يتواجد في الجيش المصري من ممارسة السياسة. وتم الحكم "صورياً" على 13 منهم بالسجن مدة 10 سنوات، خُففت بعد ذلك إلى السجن بين عام وثلاثة أعوام. وتضامنت معهم الكثير من القوى الثورية والائتلاف العام للثورة، مطالبين بإطلاق سراحهم والعفو الشامل عنهم. وبحسب المعلومات التي حصلت عليها "العربي الجديد"، فإن جميع هؤلاء الضباط عادوا إلى الخدمة في مواقعهم بالقوات المسلحة بشكل طبيعي.
وكان من بين هؤلاء الضباط، الضابط في سلاح المشاة محمد طارق وديع، والذي كان قائداً لدورية صاعقة بالكتيبة 33 صاعقة /المجموعة 127 صاعقة، وقائد طاقم قتال في الوحدة المشهورة بـ"999 قتال"، وكانت كل خدمته في القوات الخاصة "الوحدة 999 قتال" وفرق الإرهاب الدولي.
كما ضمّت المجموعة الملازم أول محمود سامي، وكان من أوائل الضباط الذين نزلوا ميدان التحرير يوم 8 إبريل، والملازم أول مصطفى عبد المجيد، والذي تم تكريمه لسرعة استجابته ونزول سريته لتكون أول سرية دبابات تصل إلى السويس إبان الثورة، والملازم أول رامي أحمد عبد العزيز، الضابط المتخصص في سلاح "الحرب الإلكترونية"، والذي قاد سرية مهمتها تأمين شخصيات مهمة، والمراقبة والتأمين الإلكتروني. إضافة إلى الرائد محمد عبد القادر، والذي تم تكريمه من قبل كأحسن ضابط استطلاع على مستوى القوات المسلحة، والرائد أحمد نجدي، الذي حصل على فرقة السيل رقم 1، وأحد أفضل عناصر وحدة مقاومة الإرهاب لقوات الحرس الجمهوري، كما حصل على فرقة تأمين وحماية الشخصيات المهمة من مصر وألمانيا وضمن مجموعة تأمين مقر رئيس الجمهورية، وكان أحد أكثر وأهم المرشحين للحراسة اللصيقة للرئيس.
اختراق ائتلافات شباب الثورة
فطنت الاستخبارات الحربية بقيادة السيسي ووعي المجلس العسكري بشكل عام، بضرورة اختراق ائتلاف شباب الثورة منذ اللحظة الأولى، فقام المجلس بتكثيف إجراءات التواصل مع شباب الثورة، وذلك من خلال تنظيم اللقاءات الدورية دائماً، وكان أولها في بداية شهر يونيو/حزيران 2011 في لقاء ضم حوالي 153 ائتلافاً ثورياً كان للاستخبارات الحربية دورٌ في تشكيل معظمها من أجل ضرب ائتلاف الثورة الأصلي. حضر ذلك اللقاء نحو 1200 فرد، فيما أعلن 23 ائتلافاً لـ"شباب الثورة" الذين أطلقوا الدعوة إلى ثورة 25 يناير، رفضها دعوة للحوار وجّهها الجيش، وطالبت أولاً بوقف المحاكمات العسكرية للثوار.
وقالت هذه الائتلافات، التي تضم الحركات الشبابية الرئيسية التي شاركت في إطلاق الثورة، في بيان نشرته على مواقعها على "فيسبوك"، إن لها عدة تحفّظات على دعوة الجيش لها إلى الحوار. وقالت "لا نستطيع أن نقبل أن يكون هذا الحوار في سياق ما يحدث من محاكمات عسكرية للثوار وتجاوزات لجهاز الشرطة العسكرية، والالتفاف حول التحقيقات في هذه التجاوزات". وأضاف الشباب أنهم لا يقبلون بإجراء هذا الحوار "في ظل قوانين تجرّم التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي وحرية الرأي والتعبير الصادر عن مجلسكم، وكذلك تجريم الحديث عن المجلس العسكري في الإعلام".
وقال الشباب في بيانهم إن الدعوة التي وجّهها الجيش لم تتضمن أي أطر أو موضوعات أو أسس للحوار يجري التعامل على أساسها، كما أنها لم تحدد آليات وضمانات تنفيذ ما يصدر عن هذا الاجتماع من توصيات. وأكدت هذه الائتلافات أنها ترفض بشدة سلْخ الحركات الشبابية عن باقي القوى الوطنية الممثلة للثورة، وترى في ذلك تفتيتا مضرّاً لقوى الثورة.
وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم دعا في بيان نشره على صفحته على "فيسبوك" شباب الثورة إلى حوار، مؤكداً أن القاعة المخصصة له تتسع لألف شخص، من دون أن يحدد جدول أعمال لهذا الحوار أو هدفاً واضحاً له. وجاءت هذه الدعوة بعد أن نجحت الدعوة التي أطلقها شباب الثورة إلى التظاهر في الجمعة السابقة للدعوة في ميدان التحرير في القاهرة وفي مختلف المحافظات المصرية، تدعو إلى تعديل البرنامج الذي وضعه الجيش للمرحلة الانتقالية بحيث يتم انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد قبل إجراء الانتخابات التشريعية.