06 نوفمبر 2024
الديمقراطية التركية الهجينة
فوز كبير وغير منتظر هو الذي حققه حزب العدالة والتنمية التركي في انتخابات فاتح نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. يُحسب هذا الفوز الكبير لرجل واحد، هو رجب طيب أردوغان، رئيس الحزب السابق والرئيس الحالي لتركيا.
فوز كبير، لأن الحزب الحاصل اليوم على الغالبية المطلقة في البرلمان التركي لم يكن عدد المقاعد الذي حصل عليها قبل خمسة أشهر يفوق أربعين في المائة، فكيف نجح في ظرف خمسة أشهر في تحسين أدائه ليستعيد مكانته حزباً ظل يهيمن على الحياة السياسية في تركيا أكثر من عقدين؟
هناك رصيد الحزب الذي ما زال يجعل ثقة الناس كبيرة فيه، بما أن دخل المواطن التركي ارتفع في عهد الحزب من ثلاثة آلاف دولار إلى اثنى عشر ألف دولار سنوياً، في عشر سنوات، كما أن تركيا باتت تصنف اليوم في المرتبة الرابعة عشرة من بين الدول الأكثر تقدماً في العالم.
لكن، في ظرف الخمسة أشهر الفاصلة ما بين انتخابات يونيو/حزيران وانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، ساعدت عدة عوامل على تجاوز الحزب كبوته مستفيداً من تشتت أحزاب المعارضة وانقسامها على نفسها، وأيضاً من الأحداث المأساوية التي عاشتها تركيا أخيراً، خصوصاً استئناف الحرب ضد الأكراد المسلحين، والحدث الإرهابي الذي ضرب تركيا، وجعل الأتراك يتذكّرون الماضي القريب بكل مآسيه، ويفضلون سنوات الاستقرار في عهد "العدالة والتنمية"، متغاضين عن النزعة الدكتاتورية لزعيم الحزب ورئيس الدولة، رجب طيب أردوغان.
نهج الحزب حملة انتخابية قوية، مستفيدا من وجوده في الحكومة، ومستعملا سياسة الترغيب والترهيب مع خصومه، ليفرض نفسه لاعباً رئيسياً، ولا محيد عنه داخل ساحة تركية، تمور بأحداثٍ عديدة. وقبل ذلك، أفشل كل محاولات تأسيس حكومة ائتلافية، حتى لو كان هو من سيرأسها، لأنه لا يريد أن يقتسم السلطة مع أيٍّ كان، وفضل المغامرة بالذهاب من جديد إلى صناديق الاقتراع على قيادة حكومة ائتلافية، لا يملك سلطة المراقبة على كل أعضائها.
لكن، أمام هذا الفوز الكبير للحزب في انتخابات أول نوفمبر يقابله تراجع كبير للنموذج التركي على مستوى العالم. فقد نجح "العدالة والتنمية" في السنوات العشر الماضية في بناء نموذج تركي ديمقراطي، جمع بين المحافظة على حالة الاستقرار في منطقة مضطربة وتحقيق تداول سلمي على السلطة في بلد عرف هزات واضطرابات كثيرة، وعاش أزمات سياسية عديدة، وساهم في إحداث تعايش فريد من نوعه بين الإسلام والعلمانية، في بلد دستوره علماني، ودين أغلبية سكانه هو الإسلام، ونجح في بناء قاعدة تنمية قوية، مكنته من تحقيق تطور اقتصادي باهر في سنوات قليلة.
ومقابل هذه النقاط الإيجابية التي تحتسب لصالح حزب العدالة والتنمية، ظهرت ما يمكن أن نصفها بأعراض السلطة المزمنة، ما زالت في بدايتها، وبالتالي، فهي قابلة للتضخم مع كل ما يمكن أن تحمله من انعكاسات سلبية على النموذج التركي الذي بدأ يفقد كثيراً من وهجه في المنطقة والعالم. أبرز هذه الأعراض القضاء على كل السلطات المضادة أو على الأقل إضعافها، خصوصاً سلطة القضاء وحرية الإعلام، فقبيل اقتراع فاتح نوفمبر، أقدمت حكومة "العدالة والتنمية" على إغلاق وسائل إعلام معارضة لها. واليوم، في تركيا أكبر عدد من الصحافيين المعتقلين بسبب آرائهم. والرئيس التركي الذي حكم بلاده رئيساً للوزراء عشر سنوات، يريد تغيير الدستور، ليعطي لنفسه صلاحيات أوسع، وبالتالي، يستمر في حكم البلاد مدة قد تصل إلى ثلاثين سنة بالصلاحيات التي سيعطيها لنفسه بعد تعديل الدستور، لأنه ما زالت أمامه إمكانية الترشح لولاية ثانية لرئاسة بلاده، وهو ما زال في بداية ولايته الأولى.
النموذج التركي الذي كان واعدا في بدايته ومغرياً لكثيرين في العالم، في الطريق إلى فقدان وهجه بسبب استنزاف السلطة وإغراءاتها التي لا تنتهي. وزعيم هذا النموذج ورمزه رجب طيب أردوغان في طريقه إلى تنصيب نفسه سلطاناً عثمانياً جديدا، لا يقبل النقد ولا يقبل اقتسام السلطة ولا يقبل وجود معارضة. ومن المفارقات الدالة أن نتائج الانتخابات تزامنت مع انتقال أردوغان إلى قصره الجديد الذي بناه على الطراز العثماني، لإحياء السلطنة العثمانية الجديدة، في حلة ومظهر جديدين.
يضعنا النموذج الديمقراطي التركي أمام حالة جديدة وفريدة من نوعها من ديمقراطيات الشرق الأوسط الغريبة والهجينة. فإلى جانب ديمقراطية الملالي المنغلقة على نفسها في إيران، وديمقراطية إسرائيل العنصرية، تقدم لنا تركيا اليوم ديمقراطيتها الخاصة بها، ديمقراطية الاستبداد الشرقي، الذي يبحث عن شرعنة نموذجه عبر صناديق الاقتراع.
الديمقراطية تعني تدبير الاختلاف، وضمان حق الناس في الاختلاف، والنموذج التركي بقيادة رجب طيب أردوغان يسير اليوم نحو القضاء على هذا الحق، وتكريس سلطة الرئيس سلطاناً جديداً يجمع بين شرعية صناديق الاقتراع وسلطة دكتاتورية الحاكم بأمره.
فوز كبير، لأن الحزب الحاصل اليوم على الغالبية المطلقة في البرلمان التركي لم يكن عدد المقاعد الذي حصل عليها قبل خمسة أشهر يفوق أربعين في المائة، فكيف نجح في ظرف خمسة أشهر في تحسين أدائه ليستعيد مكانته حزباً ظل يهيمن على الحياة السياسية في تركيا أكثر من عقدين؟
هناك رصيد الحزب الذي ما زال يجعل ثقة الناس كبيرة فيه، بما أن دخل المواطن التركي ارتفع في عهد الحزب من ثلاثة آلاف دولار إلى اثنى عشر ألف دولار سنوياً، في عشر سنوات، كما أن تركيا باتت تصنف اليوم في المرتبة الرابعة عشرة من بين الدول الأكثر تقدماً في العالم.
لكن، في ظرف الخمسة أشهر الفاصلة ما بين انتخابات يونيو/حزيران وانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، ساعدت عدة عوامل على تجاوز الحزب كبوته مستفيداً من تشتت أحزاب المعارضة وانقسامها على نفسها، وأيضاً من الأحداث المأساوية التي عاشتها تركيا أخيراً، خصوصاً استئناف الحرب ضد الأكراد المسلحين، والحدث الإرهابي الذي ضرب تركيا، وجعل الأتراك يتذكّرون الماضي القريب بكل مآسيه، ويفضلون سنوات الاستقرار في عهد "العدالة والتنمية"، متغاضين عن النزعة الدكتاتورية لزعيم الحزب ورئيس الدولة، رجب طيب أردوغان.
نهج الحزب حملة انتخابية قوية، مستفيدا من وجوده في الحكومة، ومستعملا سياسة الترغيب والترهيب مع خصومه، ليفرض نفسه لاعباً رئيسياً، ولا محيد عنه داخل ساحة تركية، تمور بأحداثٍ عديدة. وقبل ذلك، أفشل كل محاولات تأسيس حكومة ائتلافية، حتى لو كان هو من سيرأسها، لأنه لا يريد أن يقتسم السلطة مع أيٍّ كان، وفضل المغامرة بالذهاب من جديد إلى صناديق الاقتراع على قيادة حكومة ائتلافية، لا يملك سلطة المراقبة على كل أعضائها.
لكن، أمام هذا الفوز الكبير للحزب في انتخابات أول نوفمبر يقابله تراجع كبير للنموذج التركي على مستوى العالم. فقد نجح "العدالة والتنمية" في السنوات العشر الماضية في بناء نموذج تركي ديمقراطي، جمع بين المحافظة على حالة الاستقرار في منطقة مضطربة وتحقيق تداول سلمي على السلطة في بلد عرف هزات واضطرابات كثيرة، وعاش أزمات سياسية عديدة، وساهم في إحداث تعايش فريد من نوعه بين الإسلام والعلمانية، في بلد دستوره علماني، ودين أغلبية سكانه هو الإسلام، ونجح في بناء قاعدة تنمية قوية، مكنته من تحقيق تطور اقتصادي باهر في سنوات قليلة.
ومقابل هذه النقاط الإيجابية التي تحتسب لصالح حزب العدالة والتنمية، ظهرت ما يمكن أن نصفها بأعراض السلطة المزمنة، ما زالت في بدايتها، وبالتالي، فهي قابلة للتضخم مع كل ما يمكن أن تحمله من انعكاسات سلبية على النموذج التركي الذي بدأ يفقد كثيراً من وهجه في المنطقة والعالم. أبرز هذه الأعراض القضاء على كل السلطات المضادة أو على الأقل إضعافها، خصوصاً سلطة القضاء وحرية الإعلام، فقبيل اقتراع فاتح نوفمبر، أقدمت حكومة "العدالة والتنمية" على إغلاق وسائل إعلام معارضة لها. واليوم، في تركيا أكبر عدد من الصحافيين المعتقلين بسبب آرائهم. والرئيس التركي الذي حكم بلاده رئيساً للوزراء عشر سنوات، يريد تغيير الدستور، ليعطي لنفسه صلاحيات أوسع، وبالتالي، يستمر في حكم البلاد مدة قد تصل إلى ثلاثين سنة بالصلاحيات التي سيعطيها لنفسه بعد تعديل الدستور، لأنه ما زالت أمامه إمكانية الترشح لولاية ثانية لرئاسة بلاده، وهو ما زال في بداية ولايته الأولى.
النموذج التركي الذي كان واعدا في بدايته ومغرياً لكثيرين في العالم، في الطريق إلى فقدان وهجه بسبب استنزاف السلطة وإغراءاتها التي لا تنتهي. وزعيم هذا النموذج ورمزه رجب طيب أردوغان في طريقه إلى تنصيب نفسه سلطاناً عثمانياً جديدا، لا يقبل النقد ولا يقبل اقتسام السلطة ولا يقبل وجود معارضة. ومن المفارقات الدالة أن نتائج الانتخابات تزامنت مع انتقال أردوغان إلى قصره الجديد الذي بناه على الطراز العثماني، لإحياء السلطنة العثمانية الجديدة، في حلة ومظهر جديدين.
يضعنا النموذج الديمقراطي التركي أمام حالة جديدة وفريدة من نوعها من ديمقراطيات الشرق الأوسط الغريبة والهجينة. فإلى جانب ديمقراطية الملالي المنغلقة على نفسها في إيران، وديمقراطية إسرائيل العنصرية، تقدم لنا تركيا اليوم ديمقراطيتها الخاصة بها، ديمقراطية الاستبداد الشرقي، الذي يبحث عن شرعنة نموذجه عبر صناديق الاقتراع.
الديمقراطية تعني تدبير الاختلاف، وضمان حق الناس في الاختلاف، والنموذج التركي بقيادة رجب طيب أردوغان يسير اليوم نحو القضاء على هذا الحق، وتكريس سلطة الرئيس سلطاناً جديداً يجمع بين شرعية صناديق الاقتراع وسلطة دكتاتورية الحاكم بأمره.