27 يناير 2020
الديمقراطية في فكر محمد عابد الجابري
عاش العالم العربي في السنين الأخيرة مجموعة من التحولات العميقة، خصوصاً على المستوى السياسي والاجتماعي، فقد شكلت احتجاجات 2011 مدخلاً لمرحلة تاريخية جديدة..
فمنذ انطلاق هذه الاحتجاجات، والأنظمة تسقط اتباعاً بدأ من زين العابدين بن علي في تونس مروراً بحسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن وانتهاء بعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر وعمر البشير في السودان.
في ظل هذا الظرف التاريخي الذي تمرّ به المنطقة العربية، طفا إلى السطح مفهوم جديد في ساحة السياسية العربية وهو مفهوم "الانتقال الديمقراطي"، الذي يعتبر من أبرز القضايا الفكرية والسياسية في عالمنا العربي المعاصر، والذي أثار الجدل بين من يدعون إلى الديمقراطية من قوى التغيير، وبين النخب السياسية التي تركها الاستعمار، والتي تحارب كل القوى التي تدعو إلى ترسيخ قيمة "الديمقراطية" لدى المواطن العربي.
إن مشكلة الانتقال الديمقراطي في أوطاننا العربية تحكمها العديد من العوامل (الجهل، والفقر، والتخلف، والفساد، والاستبداد...)، وقد حاول الكثير من المفكرين في أبحاثهم ودراساتهم إيجاد صيغة مناسبة لحل قضية "الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي"، ومن أبرزهم المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والذي حاول تقديم دراسة متكاملة عن هذا الموضوع من خلال كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان". والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف عالج محمد عابد الجابري مفهوم "الديمقراطية"؟ وهل محاولة الجابري قدمت إجابة شافية لقضية الديمقراطية والانتقال الديمقراطي؟
يهدف محمد عابد الجابري إلى محاولة رسم معالم عامة، لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، لكي يمكنه ذلك من التقريب بين "نظام القيم" في الثقافة العربية الإسلامية وبين الديمقراطية بمفهومها المعاصر. لذلك حاول تعميق النظر في موضوع نظام القيم، وهو يعني بها جملة المبادئ والقواعد الأخلاقية التي يتحدّد بها وفي إطارها الحسن والقبح والعدل والظلم والحرية والمساواة والعدالة.. إلخ، ويميز في نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، بين ثلاث صيغ، وهي كالآتي:
1. الصيغة الفقهية الكلامية، والتي تشكّلت في إطار اجتهاد الفقهاء والمتكلمين في عصر التدوين وامتداداته تحت ضغط مشاغلهم وإشكالياتهم وصراعاتهم.
2. الصيغة التي روّجت لها الأدبيات السلطانية وكتب الأخلاق والأدب العامة، وهي صيغة ينسب معظم مكوناتها إلى الإرث الفارسي-الساساني، وقد ظهرت هذه الصيغة أول ما ظهرت مع ابن المقفع في كتبه: الأدب الصغير، والأدب الكبير، وكليلة ودمنة.
3. الصيغة اليونانية، وهي أفلاطونية في هيكلها العام، أرسطية في بعض مضامينها.
وفيما يلي سنعرض إجابة الجابري عن السؤال الإشكالي التالي: كيف تتحدّد الديمقراطية في كل واحدة من هذه الصيغ؟
مما هو معلوم أن الديمقراطية كلمة يونانية الأصل وتعني حكم الشعب نفسه بنفسه، وقد ترجم الفارابي لفظ الديمقراطية بهذا المعنى اليوناني الأصيل للكلمة بـ"الجماعية"، ونظام الحكم الديمقراطي بـ"المدينة الجماعية"، والجابري لم يعثر لهذه العبارة، عبارة "الحكم الجماعي" أو "المدينة الجماعية"، على أي أثر في الثقافة العربية خارج النصوص الفلسفية (فلسفة الفارابي) التي كانت تعرض أو تلخص آراء أفلاطون السياسية (كتاب الجمهورية، ومحاوراته مع سقراط...)، هذا ما يدل على أن الديمقراطية كانت لدى العامة والنخبة السياسية في العالم العربي الإسلامي من اللامفكر فيه، وهذا لا يعني أن غياب المعنى السياسي لكلمة "ديمقراطية" في نظام القيم السائد في الثقافة العربية الإسلامية يلغي أو يغيب مضمونها كقيمة أخلاقية عليا بوصفها الهدف الأسمى الذي يراد بلوغه من خلال تطبيقاتها السياسية.
فأفلاطون حينما نظر لمفهوم "الديمقراطية"، الذي هو نظام الحكم في "المدينة الفاضلة"، التي شكك في قيامها، والتي اشترط أن يرأسها فيلسوف، ظل مطلب العدالة مع ذلك قائماً، فأفلاطون يعتبر نظام الحكم الأرستقراطي الذي يتولى أصحاب الشأن وعلاة القوم السلطة فيه، هو الأقرب إلى تحقيق العدالة من غيره من الأنظمة التي كانت سائدة قبل، ويعلق الجابري على ذلك بقوله "إننا، نحن في القرن العشرين، نرى أن الديمقراطية، وبالتالي العدالة، إنما تتحقق من خلال نظام حكم يقوم على أساس "حكم الشعب نفسه بنفسه" بواسطة ممثلين يختارهم بكل حرية. إذن فما كان مطلوب من جمهورية أفلاطون وما هو مطلوب في الفكر السياسي المعاصر هو في نهاية المطاف "العدالة"، ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، حيث يحتل "العدل" مكانة سامية في سلم القيم، بل هو إحدى القيمتين الرئيسيتين، في نظام القيم عند المعتزلة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "أهل العدل والتوحيد".
ويرى الجابري أن العدل في الصيغة الفقهية الكلامية لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية من القيم الأساسية التي أجمعت جميع المذاهب والفرق الإسلامية على التمسك بها والمطالبة بوضعها في أسمى مقام، ومع ذلك فالمفهوم السياسي للعدالة الذي تلبسه الديمقراطية بمعناها المعاصر لم يطرح في خطاب المتكلمين والفقهاء بصورة مباشرة، فلم يكن موضوع نقاش أو اجتهاد تماماً كما هو الحال لمرادفه في هذا المجال، وهو مفهوم "الشورى"، الذي نوه به القرآن والسنة. أما العدل عند المؤلفين في الأدبيات السلطانية ونصائح الملوك فليس له قيمة مستقلة بنفسها، بل هم يربطون بينه وبين قيمة أخرى وهي "الطاعة"، بوصفهما "حقين" متلازمين يستدعي الواحد منهما الآخر، أي حق الأمير في طاعة الرعية له، وحق الرعية في عدل الأمير، إن على الرعية أن تطيع مقابل أن يعدل الراعي، وواضح أن طاعة الرعية تسبق عدل الأمير، إذ بها يصير أميراً أولاً، ثم بعد ذلك يكون عادلاً أو لا يكون، ودون التنقيص من النوايا الحسنة التي لا شك أنها كانت وراء إشادة كثير من المؤلفين في الأدبيات السلطانية بـ"العدل" فإن موقعه في نظام القيم الذي تشيده هذه الأدبيات يجعل منها قيمة لا في ذاتها، بل من أجل قيمة أخرى هي "الطاعة".
ويعتبر الجابري أن تعريف العدل كونه "إنزال الناس منازلهم" تعريف يوناني الأصل كرسه أفلاطون في جمهوريته، ولكن في إطار نظري يختلف عن الإطار الذي نجده في الصبغة الأولى، ولقد كان المجتمع اليوناني مجتمعاً طبقياً كما هو معروف: طبقة المنتجين (تجار، وحرفيين، وعبيد...) وغير المنتجين (الأسياد)، لذلك كان لا بد من قيمة أخرى فوق القيم الثلاث، وهي العفة والشجاعة والحكمة، ومهمتها إقامة التوازن بينها، وهذه القيمة العليا هي العدالة، ومن هذه القيم الأربع (ومضاداتها) تتفرع جميع القيم الأخرى في الصيغة اليونانية لنظام القيم الأخلاقية، وليس السياسة في الثقافة العربية الإسلامية، ولعل أحسن كتاب يعرض هذه الصيغة بصورة منهجية مبوبة ومنظمة، هو كتاب "تهذيب الأخلاق" لمسكويه، وعنه أخذت المؤلفات الأخرى في الأخلاق بما في ذلك تلك التي ترتدي ثوباً إسلامياً مثل كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني.
من خلال ما سبق يخلص الجابري إلى أن "الديمقراطية" كما نفهمها الآن، كانت غائبة تماما عن نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية بصيغه الثلاث، وبعبارة أخرى إنها لم تكن حاضرة في حقل تفكير مفكري الإسلام وكانت في حيز اللا مفكر فيه عند المتكلمين والفقهاء والفلاسفة، فقد كان أفق تفكير النخب في ذلك الوقت يتحدد بمعطيات مرحلة تاريخية حضارية معينة، حيث كانت الديمقراطية في مجال ما لا يقبل التفكير فيه.
وقد عمل الجابري كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان" على محاولة تحديد مرجعيات الفكر العربي المعاصر حول "الديمقراطية"، فهو حصرها في الآتي:
• المرجعية التراثية والتي بعد الاحتكاك بالغرب والاطلاع على فكره الليبرالي وعلى ما حققه من نجاحات في العصر الماضي، عمد فريق، وخصوصاً "السلفيين الإصلاحيين"، إلى البحث عما يوازي كل مفهوم من المفاهيم الغربية الليبرالية أو ما يقاربه في الفكر العربي الإسلامي القديم، فتواصلوا إلى مطابقة أو على الأقل مقاربة مفهوم الديمقراطية بمفهوم الشورى الإسلامي، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الديمقراطية تعرف لدى المفكر ذو المرجعية التراثية بالشورى، بل تطورت المقاربة بينهما إلى درجة أصبحت معها الشورى أكثر تعبيراً عن معنى الديمقراطية ذاتها.
• المرجعية النهضوية: والتي تنظر إلى الديمقراطية كشرط أساسي للتقدم، ومن هنا ضرورة العمل على إحلالها في الوطن العربي على غرار الأوطان الأوروبية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا، هو أن أوروبا وصلت إلى الديمقراطية بعد نضال طويل (الثورة الفرنسية 1789، والثورات القومية من 1821 إلى 1871) فهل يمكن تجسيدها في الوطن العربي في لحظة قصيرة كما تطمح إلى ذلك المرجعية النهضوية؟ يجيب الجابري عن هذا السؤال بالتأكيد أن الغرب وإن سبقنا بتجربته وبنضاله الطويل نحو الديمقراطية فإنه ليس من الضروري اتباع نفس السبيل الذي سار عليه، ولا أن يدون نضالنا نفس الفترة التي استغرقها نضاله، إذ يمكننا أن نختصر الطريق إليها.
في الأخير الجابري يؤكد أن غياب مفهوم "الديمقراطية" في الفكر العربي القديم وحتى النهضوي، لا يعني استحالة إمكانية تأسيسها وتثبيتها اليوم في الثقافة العربية الإسلامية، لذلك يقول الجابري "إن ما تردد في المرجعية الأولى للثقافة العربية الإسلامية، أعني القرآن والسنة، من تنويه بالشورى والعدل وحث على العمل بهما يمكن أن يجد اليوم آذاناً أخرى تجعل منهما (وبالتالي من الديمقراطية بمعناها المعاصر)، قيمة القيم فتؤسس عليها فقهاً سياسياً جديداً يجعل الشورى ملزمة - وليس معلمة فقط - وينقل "العدل" من الآخرة إلى الدنيا ويحجره من قيود الطاعة للأمير ومن هاجس المماثلة بين نظام الطبيعة ونظام المجتمع ويقطع الصلة بين النظامين، باعتبار أن الطبيعة ميدان للحتمية وأن المجتمع ميدان للحرية".
فمنذ انطلاق هذه الاحتجاجات، والأنظمة تسقط اتباعاً بدأ من زين العابدين بن علي في تونس مروراً بحسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن وانتهاء بعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر وعمر البشير في السودان.
في ظل هذا الظرف التاريخي الذي تمرّ به المنطقة العربية، طفا إلى السطح مفهوم جديد في ساحة السياسية العربية وهو مفهوم "الانتقال الديمقراطي"، الذي يعتبر من أبرز القضايا الفكرية والسياسية في عالمنا العربي المعاصر، والذي أثار الجدل بين من يدعون إلى الديمقراطية من قوى التغيير، وبين النخب السياسية التي تركها الاستعمار، والتي تحارب كل القوى التي تدعو إلى ترسيخ قيمة "الديمقراطية" لدى المواطن العربي.
إن مشكلة الانتقال الديمقراطي في أوطاننا العربية تحكمها العديد من العوامل (الجهل، والفقر، والتخلف، والفساد، والاستبداد...)، وقد حاول الكثير من المفكرين في أبحاثهم ودراساتهم إيجاد صيغة مناسبة لحل قضية "الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي"، ومن أبرزهم المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والذي حاول تقديم دراسة متكاملة عن هذا الموضوع من خلال كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان". والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف عالج محمد عابد الجابري مفهوم "الديمقراطية"؟ وهل محاولة الجابري قدمت إجابة شافية لقضية الديمقراطية والانتقال الديمقراطي؟
يهدف محمد عابد الجابري إلى محاولة رسم معالم عامة، لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، لكي يمكنه ذلك من التقريب بين "نظام القيم" في الثقافة العربية الإسلامية وبين الديمقراطية بمفهومها المعاصر. لذلك حاول تعميق النظر في موضوع نظام القيم، وهو يعني بها جملة المبادئ والقواعد الأخلاقية التي يتحدّد بها وفي إطارها الحسن والقبح والعدل والظلم والحرية والمساواة والعدالة.. إلخ، ويميز في نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، بين ثلاث صيغ، وهي كالآتي:
1. الصيغة الفقهية الكلامية، والتي تشكّلت في إطار اجتهاد الفقهاء والمتكلمين في عصر التدوين وامتداداته تحت ضغط مشاغلهم وإشكالياتهم وصراعاتهم.
2. الصيغة التي روّجت لها الأدبيات السلطانية وكتب الأخلاق والأدب العامة، وهي صيغة ينسب معظم مكوناتها إلى الإرث الفارسي-الساساني، وقد ظهرت هذه الصيغة أول ما ظهرت مع ابن المقفع في كتبه: الأدب الصغير، والأدب الكبير، وكليلة ودمنة.
3. الصيغة اليونانية، وهي أفلاطونية في هيكلها العام، أرسطية في بعض مضامينها.
وفيما يلي سنعرض إجابة الجابري عن السؤال الإشكالي التالي: كيف تتحدّد الديمقراطية في كل واحدة من هذه الصيغ؟
مما هو معلوم أن الديمقراطية كلمة يونانية الأصل وتعني حكم الشعب نفسه بنفسه، وقد ترجم الفارابي لفظ الديمقراطية بهذا المعنى اليوناني الأصيل للكلمة بـ"الجماعية"، ونظام الحكم الديمقراطي بـ"المدينة الجماعية"، والجابري لم يعثر لهذه العبارة، عبارة "الحكم الجماعي" أو "المدينة الجماعية"، على أي أثر في الثقافة العربية خارج النصوص الفلسفية (فلسفة الفارابي) التي كانت تعرض أو تلخص آراء أفلاطون السياسية (كتاب الجمهورية، ومحاوراته مع سقراط...)، هذا ما يدل على أن الديمقراطية كانت لدى العامة والنخبة السياسية في العالم العربي الإسلامي من اللامفكر فيه، وهذا لا يعني أن غياب المعنى السياسي لكلمة "ديمقراطية" في نظام القيم السائد في الثقافة العربية الإسلامية يلغي أو يغيب مضمونها كقيمة أخلاقية عليا بوصفها الهدف الأسمى الذي يراد بلوغه من خلال تطبيقاتها السياسية.
فأفلاطون حينما نظر لمفهوم "الديمقراطية"، الذي هو نظام الحكم في "المدينة الفاضلة"، التي شكك في قيامها، والتي اشترط أن يرأسها فيلسوف، ظل مطلب العدالة مع ذلك قائماً، فأفلاطون يعتبر نظام الحكم الأرستقراطي الذي يتولى أصحاب الشأن وعلاة القوم السلطة فيه، هو الأقرب إلى تحقيق العدالة من غيره من الأنظمة التي كانت سائدة قبل، ويعلق الجابري على ذلك بقوله "إننا، نحن في القرن العشرين، نرى أن الديمقراطية، وبالتالي العدالة، إنما تتحقق من خلال نظام حكم يقوم على أساس "حكم الشعب نفسه بنفسه" بواسطة ممثلين يختارهم بكل حرية. إذن فما كان مطلوب من جمهورية أفلاطون وما هو مطلوب في الفكر السياسي المعاصر هو في نهاية المطاف "العدالة"، ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، حيث يحتل "العدل" مكانة سامية في سلم القيم، بل هو إحدى القيمتين الرئيسيتين، في نظام القيم عند المعتزلة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "أهل العدل والتوحيد".
ويرى الجابري أن العدل في الصيغة الفقهية الكلامية لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية من القيم الأساسية التي أجمعت جميع المذاهب والفرق الإسلامية على التمسك بها والمطالبة بوضعها في أسمى مقام، ومع ذلك فالمفهوم السياسي للعدالة الذي تلبسه الديمقراطية بمعناها المعاصر لم يطرح في خطاب المتكلمين والفقهاء بصورة مباشرة، فلم يكن موضوع نقاش أو اجتهاد تماماً كما هو الحال لمرادفه في هذا المجال، وهو مفهوم "الشورى"، الذي نوه به القرآن والسنة. أما العدل عند المؤلفين في الأدبيات السلطانية ونصائح الملوك فليس له قيمة مستقلة بنفسها، بل هم يربطون بينه وبين قيمة أخرى وهي "الطاعة"، بوصفهما "حقين" متلازمين يستدعي الواحد منهما الآخر، أي حق الأمير في طاعة الرعية له، وحق الرعية في عدل الأمير، إن على الرعية أن تطيع مقابل أن يعدل الراعي، وواضح أن طاعة الرعية تسبق عدل الأمير، إذ بها يصير أميراً أولاً، ثم بعد ذلك يكون عادلاً أو لا يكون، ودون التنقيص من النوايا الحسنة التي لا شك أنها كانت وراء إشادة كثير من المؤلفين في الأدبيات السلطانية بـ"العدل" فإن موقعه في نظام القيم الذي تشيده هذه الأدبيات يجعل منها قيمة لا في ذاتها، بل من أجل قيمة أخرى هي "الطاعة".
ويعتبر الجابري أن تعريف العدل كونه "إنزال الناس منازلهم" تعريف يوناني الأصل كرسه أفلاطون في جمهوريته، ولكن في إطار نظري يختلف عن الإطار الذي نجده في الصبغة الأولى، ولقد كان المجتمع اليوناني مجتمعاً طبقياً كما هو معروف: طبقة المنتجين (تجار، وحرفيين، وعبيد...) وغير المنتجين (الأسياد)، لذلك كان لا بد من قيمة أخرى فوق القيم الثلاث، وهي العفة والشجاعة والحكمة، ومهمتها إقامة التوازن بينها، وهذه القيمة العليا هي العدالة، ومن هذه القيم الأربع (ومضاداتها) تتفرع جميع القيم الأخرى في الصيغة اليونانية لنظام القيم الأخلاقية، وليس السياسة في الثقافة العربية الإسلامية، ولعل أحسن كتاب يعرض هذه الصيغة بصورة منهجية مبوبة ومنظمة، هو كتاب "تهذيب الأخلاق" لمسكويه، وعنه أخذت المؤلفات الأخرى في الأخلاق بما في ذلك تلك التي ترتدي ثوباً إسلامياً مثل كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني.
من خلال ما سبق يخلص الجابري إلى أن "الديمقراطية" كما نفهمها الآن، كانت غائبة تماما عن نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية بصيغه الثلاث، وبعبارة أخرى إنها لم تكن حاضرة في حقل تفكير مفكري الإسلام وكانت في حيز اللا مفكر فيه عند المتكلمين والفقهاء والفلاسفة، فقد كان أفق تفكير النخب في ذلك الوقت يتحدد بمعطيات مرحلة تاريخية حضارية معينة، حيث كانت الديمقراطية في مجال ما لا يقبل التفكير فيه.
وقد عمل الجابري كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان" على محاولة تحديد مرجعيات الفكر العربي المعاصر حول "الديمقراطية"، فهو حصرها في الآتي:
• المرجعية التراثية والتي بعد الاحتكاك بالغرب والاطلاع على فكره الليبرالي وعلى ما حققه من نجاحات في العصر الماضي، عمد فريق، وخصوصاً "السلفيين الإصلاحيين"، إلى البحث عما يوازي كل مفهوم من المفاهيم الغربية الليبرالية أو ما يقاربه في الفكر العربي الإسلامي القديم، فتواصلوا إلى مطابقة أو على الأقل مقاربة مفهوم الديمقراطية بمفهوم الشورى الإسلامي، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الديمقراطية تعرف لدى المفكر ذو المرجعية التراثية بالشورى، بل تطورت المقاربة بينهما إلى درجة أصبحت معها الشورى أكثر تعبيراً عن معنى الديمقراطية ذاتها.
• المرجعية النهضوية: والتي تنظر إلى الديمقراطية كشرط أساسي للتقدم، ومن هنا ضرورة العمل على إحلالها في الوطن العربي على غرار الأوطان الأوروبية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا، هو أن أوروبا وصلت إلى الديمقراطية بعد نضال طويل (الثورة الفرنسية 1789، والثورات القومية من 1821 إلى 1871) فهل يمكن تجسيدها في الوطن العربي في لحظة قصيرة كما تطمح إلى ذلك المرجعية النهضوية؟ يجيب الجابري عن هذا السؤال بالتأكيد أن الغرب وإن سبقنا بتجربته وبنضاله الطويل نحو الديمقراطية فإنه ليس من الضروري اتباع نفس السبيل الذي سار عليه، ولا أن يدون نضالنا نفس الفترة التي استغرقها نضاله، إذ يمكننا أن نختصر الطريق إليها.
في الأخير الجابري يؤكد أن غياب مفهوم "الديمقراطية" في الفكر العربي القديم وحتى النهضوي، لا يعني استحالة إمكانية تأسيسها وتثبيتها اليوم في الثقافة العربية الإسلامية، لذلك يقول الجابري "إن ما تردد في المرجعية الأولى للثقافة العربية الإسلامية، أعني القرآن والسنة، من تنويه بالشورى والعدل وحث على العمل بهما يمكن أن يجد اليوم آذاناً أخرى تجعل منهما (وبالتالي من الديمقراطية بمعناها المعاصر)، قيمة القيم فتؤسس عليها فقهاً سياسياً جديداً يجعل الشورى ملزمة - وليس معلمة فقط - وينقل "العدل" من الآخرة إلى الدنيا ويحجره من قيود الطاعة للأمير ومن هاجس المماثلة بين نظام الطبيعة ونظام المجتمع ويقطع الصلة بين النظامين، باعتبار أن الطبيعة ميدان للحتمية وأن المجتمع ميدان للحرية".