ليس لديّ اعتراض على التكنولوجيا في حد ذاتها، ولكنّ أكثر آثارها عمقاً تتبدّى في الذاكرة. لا شيء أكثر أهميّة للخيال من الذاكرة، وتحاول التكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية تدميرها. تميل قوى السوق العالمية إلى محو الذاكرة. ينسى الناس غالباً نوعية الهاتف المحمول أو نوع الكمبيوتر الذي كانوا يستخدمونه قبل عامين، أو الملابس التي اشتروها العام الماضي. يستحيل اليوم إصلاح مذياع قديم بسبب انعدام قطع الغيار في السوق. يُمحى التاريخ أيضاً من خلال التكنولوجيا إلى جانب الذاكرة، ولا شيء قادر على مواجهة كلِّ هذا سوى اللغة والأدب.
لكنَّ الذاكرة ليست عبارةً عن حنين عميق وحسب؛ إذ يعني الحنين إلى الماضي التوق إلى الأشياء التي لم تعد موجودة، أمّا الذاكرة فتعيش داخل الإنسان وليست شيئاً من الماضي. تعيش الذاكرة في الزمن الحاضر، وتُمثّل المصدرَ الأهم للخيال والشعر. لا وجود للخيال الذي يُعدّ جوهر الشعر بدون ذاكرة، بل وتصبح الذاكرة نفسها أحياناً عبارة عن خيال. من لا يستطيع إطلاق العنان لخياله لا يمكنه كتابة الشعر.
الطفولة هي الغذاءُ الحقيقي لأي رحلة شعرية. قال أحد المخرجين العظام من البنغال، المخرج ريتويك جاتاك، إننا لا بد أن نبقي قطعة من طفولتنا في جيوبنا، لنحافظ على بشريّتنا في ما تبقى لنا من حياة.
أذهبُ إلى كافالباني، مسقط رأسي وطفولتي، مرّةً في السنة، ولكنّني أشعر دائماً بالفرق بين زيارة موطنك والعودة إليه حقاً. يعود أولئك الذين عاشوا لفترات طويلة في المدن كلاجئين إلى الأماكن التي تحدّروا منها مكسورين ليلوذوا بمساقط رؤوسهم، ولكنّني لا أحقد على المدن. (حياة القرية محدودة ومحصورة، أمّا المدن فتقود المرء إلى حياة الاكتشاف والتطوُّر الدائم). لننظر جيّداً إلى التاريخ وسنجد أنَّ جميع الحضارات ازدهرت خارج المدن، بما فيها حضارة وادي السند.
شَهِدتْ بلدتي والمناطق المجاورة لها حملات تهجير ونزوح واسعة النطاق. حدثت أول هجرة في عام 1911، عندما مشى رجل يُدعى جبار سينغ نيغي مسيرة يومين إلى لانسداون، وهو مركز تجنيد تابع للجيش. أرسل البريطانيّون جبار إلى فرنسا ليلقى حتفه خلال الحرب العالمية الأولى عام 1913. شهدنا حالات نزوح كبيرة منذ ذلك الحين. هناك 2500 قرية فرغت من سكّانها من بين 12500 قرية. هَجَرَ الناس الزراعة أو نزحوا بسبب مشاريع البنية التحتية. سوف ينسى هؤلاء الناس بعد ثلاثة أجيال لغتهم وجذورهم.
* Manglesh Dabral، أحد أبرز شعراء الهند اليوم، من مواليد عام 1948.
** ترجمة: عماد الأحمد