30 أكتوبر 2024
الذين يكذّبون بصدق
تعرفون تلك الأمسيات الشتوية في القاهرة، الخروج يصبح مستحيلًا؛ لأن الشوارع أصبحت موحلة، والسيارات مسرعة، ومجرد تخيُّل ملابسك الملطَّخة بالوحل يجعلك تكتفي بتناول أيِّ طعام عشاء يتوفر في البيت، ولذلك فقد قرّر خالي البسيط الحال أن يكون عشاؤنا مكوَّنًا من الخبز والبيض، وربما تعرفون أيضا تلك الحيلة البسيطة، أن تكسر البيضة فوق رغيف، وتضعه في الفرن، وكان عدد الأرغفة على عدد الموجودين حول موقد النار، حين بدأ ابن خالي الشاب يروي حكايةً، مدّعيا أنها حدثت معه، وكلُّنا عيون وآذان، فيما كان خالي يلوك الخرطوم الخاص بالنارجيلة، باستمتاع، ويكتم ضحكة لم أفهم سرَّها، إلا لاحقًا.
الحكاية التي رواها ابن خالي، وجعلتنا نشعر بالخوف، هي عن امرأة قابلها في الطريق العام، وطلبت منه توصيلها بسيارته المتداعية، وقد منحها معطفه؛ لأنها كانت ترتجف بردًا، وفجأة اختفت السيدة من المقعد الخلفي مع معطفه، فبحث عنها في المقابر المجاورة، فوجد معطفه معلَّقًا فوق شاهد قبر سيِّدةٍ توفيت، منذ زمن بعيد.
عند حد هذا الحدِّ، بلغ بنا الرعب مبلغه، وبدأنا نستحثُّ ابن خالي؛ لكي يروي لنا حكاية مرعبة أخرى مرَّتْ به؛ لأنه أكَّد، وهو يرى بعينين عابثتين مبلغ رعبنا، أنه قد مرّ بقصص كثيرة مشابهة. وخلال الأيام التي تلت سماعنا لهذه القصة المرعبة، أصبح ابن خالي ذا مكانة بيننا، فنحن ننتظر عودته من العمل؛ أملًا بأن يروي لنا قصة مرعبة، حدثت معه في شوارع القاهرة ليلًا، وصرنا نتنازل له عن وجبة عشائنا البسيطة، وندفع بها إليه، وكلُّنا رجاءٌ بأن يُتحفنا بقصة جديدة، والحقيقة أنَّ المرء يصبح لديه هوس بالرعب، حين يستوعب أول قصة مرعبة؛ فما الذي يمنع أن تسمع قصة أكثر رعبًا، ما دمتَ قد حصلتَ على أول جرعةٍ أيقظتْ ليلَك، وأحالت شخوص نهارك إلى خيالات متحرِّكة؟
حتى جاء يوم رحيلنا، وحمل سائقٌ شابٌّ حقائبنا، ومع ساعات الفجر، كانت السيارة تجتاز شوارع القاهرة الخالية، وأنا أنظر من شبَّاك السيارة، وأتوقع في كل لحظة أن تظهر المرأة التي ترتعد بردًا؛ لأن ابن خالي أكَّد أنها تظهر للسائقين، كلَّ ليلة، ولكن السائق قطع توقُّعاتي، حين بدأ يروي لنا، وهو يتنهَّد عن قصةٍ مرعبةٍ مرّت به على طريق صلاح سالم، وهي قصة امرأة شابّة طلبت منه توصيلها، وفيما كان السائق يكمل القصة، بلا انبهار حقيقي منِّي، أو من أمي وإخوتي، حتى إنه لاذ بالصمت بعدها، بدأت أتحسَّر على الشطائر التي التهمها ابن خالي، نيابة عنّي، والليالي التي نمت فيها خاوية البطن. وزاد من حسرتي أني سمعت القصة لاحقًا ضمن مرويَّات الكاتب المصري، أنيس منصور، وأكَّد أنها قد حدثت مع أحد أصحابه، حتى توجّه شاب مصري إلى مبنى الإذاعة، وهو يحمل دليل كذب منصور؛ لأن هذه الحكاية ما هي إلا قصة كتبها كاتب لبناني، والغريب أن أنيس منصور لم يعتذر، ولم يتنازل عن رأيه، وعن مطالبته لرجال الدين وعلماء النفس بتفسير هذه الحادثة.
القصة التي رواها أنيس منصور في الإذاعة المصرية تشبه قصصا كثيرة مشابهة جمعها في كتابه "أرواح وأشباح"، والحقيقة أنه على الرغم من كمية الرعب الموجودة في الكتاب، إلا أنني لم أشعر بأيِّ شعور مخيف، مثل ذلك الشعور الذي شعرته لأول مرة، في ليل القاهرة، حين روى القصة ابن خالي. ولاحقًا اكتشفت أن أنيس منصور كان كاتبًا مشهورًا بالسرقات، ومقرَّبًا من الرئيس أنور السادات تحديدا، وهو الذي كان يهوى الحواديت والخرافات، وأنه استمر في اختلاق الخرافات، طوال حياته، خصوصا وقت الأزمات السياسية التي كانت تحلُّ بمصر أو المنطقة العربية.
مثل هذه الحكاية حكاية الفتاة التي استهزأت بالقرآن الكريم، وقد ظهرت في توقيت أحداث غوانتنامو، وانتشرت في كل بلد عربي باسم مختلف، حتى قيل إنها قد وقعت في الحيِّ الملاصق للحيِّ الذي أقيم فيه، ولكنِّي وعيت الدرس جيدًا، وسامحت ابن خالي، رحمه الله.
عند حد هذا الحدِّ، بلغ بنا الرعب مبلغه، وبدأنا نستحثُّ ابن خالي؛ لكي يروي لنا حكاية مرعبة أخرى مرَّتْ به؛ لأنه أكَّد، وهو يرى بعينين عابثتين مبلغ رعبنا، أنه قد مرّ بقصص كثيرة مشابهة. وخلال الأيام التي تلت سماعنا لهذه القصة المرعبة، أصبح ابن خالي ذا مكانة بيننا، فنحن ننتظر عودته من العمل؛ أملًا بأن يروي لنا قصة مرعبة، حدثت معه في شوارع القاهرة ليلًا، وصرنا نتنازل له عن وجبة عشائنا البسيطة، وندفع بها إليه، وكلُّنا رجاءٌ بأن يُتحفنا بقصة جديدة، والحقيقة أنَّ المرء يصبح لديه هوس بالرعب، حين يستوعب أول قصة مرعبة؛ فما الذي يمنع أن تسمع قصة أكثر رعبًا، ما دمتَ قد حصلتَ على أول جرعةٍ أيقظتْ ليلَك، وأحالت شخوص نهارك إلى خيالات متحرِّكة؟
حتى جاء يوم رحيلنا، وحمل سائقٌ شابٌّ حقائبنا، ومع ساعات الفجر، كانت السيارة تجتاز شوارع القاهرة الخالية، وأنا أنظر من شبَّاك السيارة، وأتوقع في كل لحظة أن تظهر المرأة التي ترتعد بردًا؛ لأن ابن خالي أكَّد أنها تظهر للسائقين، كلَّ ليلة، ولكن السائق قطع توقُّعاتي، حين بدأ يروي لنا، وهو يتنهَّد عن قصةٍ مرعبةٍ مرّت به على طريق صلاح سالم، وهي قصة امرأة شابّة طلبت منه توصيلها، وفيما كان السائق يكمل القصة، بلا انبهار حقيقي منِّي، أو من أمي وإخوتي، حتى إنه لاذ بالصمت بعدها، بدأت أتحسَّر على الشطائر التي التهمها ابن خالي، نيابة عنّي، والليالي التي نمت فيها خاوية البطن. وزاد من حسرتي أني سمعت القصة لاحقًا ضمن مرويَّات الكاتب المصري، أنيس منصور، وأكَّد أنها قد حدثت مع أحد أصحابه، حتى توجّه شاب مصري إلى مبنى الإذاعة، وهو يحمل دليل كذب منصور؛ لأن هذه الحكاية ما هي إلا قصة كتبها كاتب لبناني، والغريب أن أنيس منصور لم يعتذر، ولم يتنازل عن رأيه، وعن مطالبته لرجال الدين وعلماء النفس بتفسير هذه الحادثة.
القصة التي رواها أنيس منصور في الإذاعة المصرية تشبه قصصا كثيرة مشابهة جمعها في كتابه "أرواح وأشباح"، والحقيقة أنه على الرغم من كمية الرعب الموجودة في الكتاب، إلا أنني لم أشعر بأيِّ شعور مخيف، مثل ذلك الشعور الذي شعرته لأول مرة، في ليل القاهرة، حين روى القصة ابن خالي. ولاحقًا اكتشفت أن أنيس منصور كان كاتبًا مشهورًا بالسرقات، ومقرَّبًا من الرئيس أنور السادات تحديدا، وهو الذي كان يهوى الحواديت والخرافات، وأنه استمر في اختلاق الخرافات، طوال حياته، خصوصا وقت الأزمات السياسية التي كانت تحلُّ بمصر أو المنطقة العربية.
مثل هذه الحكاية حكاية الفتاة التي استهزأت بالقرآن الكريم، وقد ظهرت في توقيت أحداث غوانتنامو، وانتشرت في كل بلد عربي باسم مختلف، حتى قيل إنها قد وقعت في الحيِّ الملاصق للحيِّ الذي أقيم فيه، ولكنِّي وعيت الدرس جيدًا، وسامحت ابن خالي، رحمه الله.