وللمرة الأولى، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في خطابه يوم الإثنين الماضي، موقفاً صريحاً ضدّ إيديولوجيا تفوّق العرق الأبيض، لاستيعاب الاحتقان من تصريحاته الاستفزازية خلال الفترة الماضية التي عمّقت الخلافات العرقية في البلاد، وعزّزت الخطاب المعادي للمهاجرين، وغذّت الحقد المتنامي بين المحافظين والليبراليين. لكنه لم يقدم بعد تحولاً ملموساً أو رغبة جدية في اتباع خطاب جديد أو سياسة جديدة بعد أحداث الأسبوع الماضي الدامية. وحصدت عمليتا إطلاق نار في الولايات المتحدة خلال أقل من 24 ساعة 31 قتيلاً، إذ لقي 22 شخصاً مصرعهم صباح السبت في مدينة إل باسو بولاية تكساس، في حين قتل تسعة آخرون فجر الأحد في مدينة دايتون بولاية أوهايو.
غير أنّ ربط جميع الاعتداءات بتصريحات ترامب الاستفزازية أو بصعود اليمين في الغرب بشكل عام، لا يعبّر عن واقع ظاهرة العنف الأميركية هذه، التي تعود جذورها إلى 20 عاماً على الأقل. على سبيل المثال، إطلاق النار الجماعي الذي حصل في مدرسة كولومبين الثانوية في ولاية كولورادو في إبريل/ نيسان عام 1999، ألهم 74 اعتداءً أو محاولة اعتداء في 30 ولاية أميركية، بحسب تحقيق لموقع "Mother Jones"، إذ حاول كل قاتل تقليد من سبقه أو تجاوز عدد الضحايا الذين قتلهم.
وأدى صعود باراك أوباما إلى الرئاسة عام 2009 إلى إعادة إحياء العنف بدوافع عرقية، عبر موجة ثانية من حوادث إطلاق النار الجماعي، كان محركها اعتداء كنيسة شارلستون الأفريقية - الأميركية في ولاية كارولينا الجنوبية في يونيو/ حزيران 2015. وبحسب إحصاءات صحيفة "واشنطن بوست"، فإنّ جريمة كولومبين نقلت معدل إطلاق النار الجماعي من حادثة كل 6 أشهر إلى واحدة كل شهرين ونصف الشهر. وبعد جريمة شارلستون، قتل بمعدل 4 أشخاص أو أكثر كل 47 يوماً، أي ثلث عدد ضحايا إطلاق النار الجماعي الـ1196 الذين سقطوا في أميركا منذ عام 1966، سقطوا بعد جريمة شارلستون.
لكن إدارة ترامب يبدو أنها غير مهتمة بالتعامل مع هذا التهديد، إذ حولت 85 في المائة من موارد مكتب "مواجهة التطرف العنفي" في وزارة الأمن القومي، من مواجهة هذا الإرهاب اليميني المتطرف إلى ملاحقة إرهابيين ومتشددين محتملين بين المهاجرين واللاجئين إلى الولايات المتحدة، وذلك بحسب دراسة لمركز "برينان للعدالة". المكتب الذي أنشأه أوباما للتعامل مع العنف بدوافع عرقية كان يضم 40 موظفاً بدوام عمل كامل مع ميزانية 24 مليون دولار سنوياً، لكن أصبح في عهد ترامب يعمل به 10 موظفين مع ميزانية 3 ملايين دولار سنوياً. مع العلم أنّ هذه الجرائم ارتفعت بنسبة 17 في المائة عام 2017 مقارنة مع عام 2016. والأهم من ذلك، أنّ عدد الضحايا الأميركيين الذين سقطوا نتيجة الإرهاب الداخلي، هو أكثر من عدد ضحايا المجموعات الإرهابية الأجنبية منذ اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة أنفقت على الحرب ضدّ الإرهاب بين عامي 2012 و2017 ما مجموعه 2.8 تريليون دولار، بمعدل 186.6 مليار دولار سنوياً، بحسب دراسة لمركز "ستيمسون". في المقابل، أنفقت الإدارة الأميركية عام 2012 حوالى 229 مليار دولار للتعامل مع تداعيات، وليس مسببات، حوادث إطلاق النار الجماعي لذلك العام.
بُعد آخر في سياق هذه القضية هو الحرب الثقافية المستمرة حول قضية امتلاك السلاح الفردي منذ سيطرة الجمهوريين على الكونغرس عام 1994 بدعم الجمعية القومية للبنادق التي تحمل منذ ذلك الوقت لواء حماية حقّ حمل السلاح الفردي، ولديها نفوذ واسع بين الجمهوريين. لكن ما هو لافت أنّ سوق الأسلحة الأميركي ازدهر بنسبة 158 في المائة من 19.1 ملياراً عام 2008 إلى 49.3 ملياراً عام 2015، بحسب المؤسسة القومية لرياضة الرماية. وعلى الرغم من أنّ هذا النمو في سوق الأسلحة بدأ قبل عام 2008، لكنّه تعزز بعد رئاسة أوباما لأنه كانت هناك خشية من تشدد الرئيس السابق في قوانين حمل السلاح. لكن بعد انتخاب ترامب رئيساً، انخفضت مبيعات الأسلحة للمرة الأولى منذ 14 عاماً، بعد تأكيدات الرئيس الحالي أنه لن يمسّ بإجراءات الحصول على الأسلحة الفردية.
ويستند المحافظون في حججهم لحمل السلاح إلى التعديل الثاني في الدستور الأميركي الذي ينصّ على أن "حقّ الشعب بالاحتفاظ بالسلاح وحمله لا يجوز انتهاكه". لكنّ هناك إجماعاً متزايداً لدى الرأي العام الأميركي حول ضرورة إيجاد حل وسطي يحظر بيع الأسلحة الحربية الخطيرة في المتاجر، والتشدد في التدقيق بخلفية من يشتري السلاح الفردي مع الاحتفاظ بهذا الحق الدستوري. لكن الانقسامات الحزبية في واشنطن تمنع ترجمة هذا الإجماع إلى الآن. والوقت ليس لصالح الجمهوريين في هذه القضية، لأن هناك دينامية جديدة في هذا الملف في ظلّ تراجع نفوذ وتضعضع الجمعية القومية للبنادق، وصعود دور مجموعات مدنية وليبرالية جديدة، لا سيما بين جيل الشباب، تدفع باتجاه إقرار قوانين لحمل الأسلحة بتمويل من الملياردير المستقل مايكل بلومبرغ وغيره. لكن هذا التحول تدريجي، وسيستغرق وقتاً في ظلّ التاريخ المؤسساتي العريق لمجموعات الضغط المؤيدة لحمل السلاح.
وتعطي حوادث إطلاق النار الجماعية الأخيرة زخماً يوحّد الليبراليين وينال دعم المستقلين، لكن هناك انقسامات بين الديمقراطيين حول الخطوات المقبلة، وما إذا كان يجب قطع العطلة الصيفية وعودة النواب إلى واشنطن لإقرار مشروع قانون يشدّد قوانين حمل السلاح سيرفضه مجلس الشيوخ ذو الأغلبية الجمهورية، أو التركيز على زيادة الضغوط من خارج الكونغرس على البيت الأبيض وزعيم الأكثرية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل، لمحاولة إنتاج تسوية في هذا الملف.
إلى ذلك، فإنّ ردّة فعل ترامب إلى الآن فيها نزعات استبدادية مثل طلبه إنزال حكم الإعدام بحقّ المجرمين، والتشدّد في مراقبة الإنترنت لمنع تكرار هذه الاعتداءات بدل محاولة طرح مقاربة أشمل لهذه القضية. كما يعطي الرئيس الأميركي، الذي لديه حساباته الانتخابية الخاصة لرئاسيات 2020، مؤشرات متناقضة بين تغريدة يقايض فيها الديمقراطيين بين إعطائهم مطلب التدقيق في خلفية من يشتري الأسلحة، مقابل حصوله على إصلاحات في قانون الهجرة، ويتبعها بخطاب، يوم الاثنين الماضي، يعتبر فيه أنّ مسببات الأحداث الدامية الأخيرة هي الإنترنت والأمراض النفسية وألعاب الفيديو، مع العلم أنّ ترامب نفسه ألغى عام 2017 مفاعيل قرار أوباما التنفيذي، الذي منع حصول المصابين بأمراض نفسية على سلاح ناري.
وفي السياق، قال مسؤول في وزارة الأمن القومي لموقع "دايلي بيست"، إنه لا يمكن إلقاء اللوم في ما حصل على "الأمراض النفسية. هذه جريمة كراهية تحركها الأيديولوجيا. هذا إرهاب، والبيت الأبيض لديه مشكلة في وصفه على هذا النحو. إنه أمر محبط للغاية". وسيكون هناك في دائرة ترامب الصغرى دور رئيسي لوزير العدل وليام بار الذي هو من مؤيدي التشدد في إجراءات امتلاك الأسلحة، وكانت هناك شكوك جمهورية حياله نتيجة هذا الأمر خلال جلسة التصديق على تعيينه في مجلس الشيوخ. والاختبار أمام ترامب هو بشأن ما إذا كان سيحاول إيجاد صيغة وسطية مع الديمقراطيين، أو يلجأ لقرارات تنفيذية رمزية لتنفيس الاحتقان، أو يسعى لتمرير الوقت حتى ينتقل تركيز الأميركيين إلى قضية أخرى.