01 نوفمبر 2024
الرواية التاريخية والحقوقية في ذكرى النكبة
من المتفق عليه أن الكيان الصهيوني في فلسطين، إنما هو، من ناحية، أحد أوجه المشروع الاستعماري الغربي وامتداداته، وبأن أحد أهم أهداف زرع وإبقاء هذا العنصر الغريب في قلب المنطقة العربية يتمثل في استنزاف العرب، وإبقاء حالة الفرقة والتشرذم ضاربة في صفوفهم، فضلا عن ضمان قاعدة عسكرية غربية متقدمة في فضاء منطقة شديد الحساسية جيوبولوتيكيا. وبهذا، فإن المشروع الصهيوني المتمثل بدولة إسرائيل، مدينٌ، أولاً، في قيامه واستمراريته إلى اليوم، إلى الدعم العسكري الغربي والغطاء السياسي الذي يقدمه هذا الغرب له، غير أن المعطى السابق لا ينفي أن المشروع الصهيوني يتوسل مقاربات أخرى عديدة، في محاولة اختلاق مشروعية مزعومة في صيرورة تسويق نفسه غربيا ودوليا، وفي مسعى إلى كسب الرأي العام، خصوصا الغربي منه.
ضمن السياق السابق، يبرز ذلك التوظيف اللاأخلاقي لمسألة "الهولوكوست" وتحميل أوروبا وأميركا، بل والعالم أجمع، المسؤولية الأخلاقية عن تلك الجريمة التي ارتكبتها النازية الألمانية بحق اليهود (بغض النظر عن حقيقة أرقام الضحايا هنا) عبر زعم خذلانه إياهم، وعدم المسارعة لنجدتهم. فاللعب على وتر عقدة الذنب لدى الآخرين ما زال وسيلة إسرائيل المفضلة في ابتزاز الدعم والتنازلات السياسية، حتى عندما تقوم بأفعالٍ من شأنها أن تضر بالأمن القومي والمصالح الاستراتيجية لأولياء نعمتها، كما في محاولات إسرائيل، اليوم، إفشال المفاوضات الغربية-الروسية-الصينية مع إيران حول برنامجها النووي. وكان من اللافت، هنا، أن زعماء إسرائيل كرروا غير مرة لازمة "الهولوكوست"، وبأنهم لن يقبلوا بأن يكونوا، من جديد، ضحية "هولوكوست" آخر على يد "إيران النووية" هذه المرة، في محاولة لإحراج الطرفين، الأميركي والأوروبي، في المفاوضات.
أيضا، لا يَكَلُّ المشروع الصهيوني من تكرار مزاعم حقوق دينية وتاريخية لليهود في فلسطين تلغي حقوق أصحاب الأرض الحقيقيين، كما أنها تهمش حقوق غير اليهود في مقدساتها. فمن تعسف في تفسير ما يسمونه وعداً ربانياً وأحقية في أرض الأجداد، إلى ادعاءات الهيكل وكون القدس حاضنة تاريخهم والتعبير المكثف عن هويتهم.. إلخ، كلها مزاعم تقوم على الإلغاء والعنصرية والتعالي على غيرهم من البشر. لذلك، لا غرو أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة كانت قد صنفت الحركة الصهيونية عام 1975 على "أنها شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، قبل أن تلغي الجمعية نفسها القرار أواخر عام 1991، من أسف، بطوق نجاة فلسطيني-عربي، بعد دخول منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية ما اصطلح على نعته بـ"عملية سلمية" مع إسرائيل.
المفارقة، هنا، أن إسرائيل تواصل عملية تزييف الوعي، تاريخاً وحاضراً، كما أنها مستمرة في عملية السطو على الذاكرة والتراث والحقائق والجغرافيا، في حين لا يلقي الطرف الفلسطيني-العربي بالاً لخطورة ذلك. إسرائيل تَصْطَنعُ تاريخاً وتراثاً مزيفين، في مسعى إلى زعم جذور ضاربة في الزمان والمكان، في حين يخجل أصحاب التاريخ والجذور، الضاربة حقاً، عن استحضارهما في سياق جدل المشروعية والأحقية.
لاحظ أن الزعماء الإسرائيليين لا يملّون من تلقين العالم دروساً في التاريخ المزعوم عن "إسرائيلية" تاريخ فلسطين وجغرافيتها ورمزيتها، كما فعل، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مثالاً لا حصراً، في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول عام 2011. في خطابه ذاك، قال نتنياهو: "كثيرا ما أسمع من يتهم إسرائيل بأنها تهود القدس. إن هذا مثل اتهام أميركا بأمركة واشنطن، أو بريطانيا بأنجلزة لندن. هل تعلمون لماذا نسمى يهودا؟ لأننا نأتي من يهودا (منطقة تشمل القدس والخليل وبئر السبع)". ويسترسل نتنياهو، في خطابه ذاك، ليحدثنا عن قصة خاتم أثري قديم مزعوم موجود في مكتبه في القدس، يعود إلى مسؤول يهودي من العهد التوراتي. وحسب مزاعمه، فإن الخاتم الذي وجد قريبا من الحائط الغربي للحرم الشريف يعود تاريخه إلى 2700 سنة، إلى زمن الملك حزقيل، وبأنه منقوش عليه بالعبرية اسم مسؤول يهودي، نتنياهو، وهو الاسم العائلي لنتنياهو نفسه. ثمّ يخبرنا عن تاريخ اسمه، بنيامين، والذي يعود إلى 3700 سنة، وهو ابن يعقوب، "المعروف أيضا بإسرائيل"، ليخلص إلى أن يعقوب وأبناءه عاشوا في الضفة الغربية قبل 4000 سنة، وبأن الوجود اليهودي في فلسطين مستمر من ذلك الحين لم ينقطع.
لا تتوقف محاولات اصْطِناعِ رواية ومشروعية عند تزوير التاريخ، بل إنها، أيضاً، تتسع لتشمل محاولات مصادرة الوعي وتزييف الحقائق، كما في زعم أن إسرائيل لم تقم على أنقاض شعب مسالم أعزل، وبعسف قانوني استعماري، وإنكار جرائم ضد الإنسانية، ارتكبت في حق ذلك الشعب، فضلاً عن محاولة إلغاء ذاكرته وتاريخه، بمسح قراه وعبرنة أسماء بلداته. بل إن الأمر تعدى ذلك إلى محاولات السطو على أكلات شعبية فلسطينية، كالحمّص والفلافل، مثلا، وتقديمهما على أنهما وجبتان يهوديتان، في محاولة لإحداث انطباع زائف أن إسرائيل جزء أصيل من ثقافة المنطقة وتاريخها.
في المقابل، نجد تغييبا، ذاتيا، للرواية الفلسطينية والعربية والإسلامية. ترى كم مرة سمعنا مسؤولاً فلسطينياً واحداً يتحدث، كما يتحدث نتنياهو، أو كما يتحدث غيره من المسؤولين الإسرائيليين، بلغة الحقوق والتاريخ؟ كم مرة تكلم مسؤول سياسي فلسطيني عما تعنيه القدس في الإسلام أو المسيحية؟ كم مرة قدموا للعالم رواية القبلة الأولى، ومسرى النبي الأكرم محمد ومعراجه، وأرض ميلاد المسيح عيسى بن مريم عليه، وعلى أمه، السلام؟
كثيرا ما يردد الإسرائيليون أن قبلة المسلمين هي مكة، وأنها والمدينة المنورة البقعتان المقدستان لديهما لا غير، ولا تجد رواية رسمية فلسطينية، أو عربية، تتحدث بالثقة والقوة نفسيهما اللتين يتحدث بهما الصهاينة اليهود عن قداسة القدس والأقصى عند المسلمين وكنيستي القيامة والمهد في القدس وبيت لحم عند المسيحيين؟ واستطرادا، متى سنسمع من مسؤول فلسطيني رسمي رواية تاريخية، في خطاب أمام العالم، عن أحقية شعب فلسطين في أرضه ووطنه؟
قبل عامين تقريباً، انضممت إلى جلسة غير رسمية جمعت كاتبا فلسطينيا معروفا مع مسؤولين عرب، أحدهما من أصل فلسطيني، على هامش مؤتمر في عاصمة عربية. كان الثلاثة يتكلمون في الموضوع الفلسطيني، وفوجئت بالكاتب الفلسطيني يستهزئ بالخطاب التراثي الفلسطيني ومصطلحاته، مثل "البيارة" و"خبز الطابون" و"الدبكة" و"الأهازيج" الشعبية، وقال إننا نضيع وقتنا بهذه الترهات، في حين أن مدن فلسطين، الإسرائيلية اليوم، ترى فيها ناطحات السحاب والرقي، وبأن إسرائيل دولة متقدمة علميا وتكنولوجيا.. الخ. أردت أن أذكر الكاتب المحترم أن إسرائيل "المتقدمة" التي وصف قامت على أكاذيب تراثية، دينية وتاريخية، وبأن تلك هي مقاربتها، اليوم، لتشريع سرقتها، غير أني امتنعت عن الحديث، احتراما لدخولي الجلسة متأخرا، ومن دون أن أكون طرفا رئيسا فيها.
باختصار، كانت أوروبا العنصرية في القرن التاسع عشر تتعامل مع سكانها من اليهود على أنهم "مشكلة"، وهو ما اصطلح على توصيفه بـ "المشكلة اليهودية"، فصدّرت تلك "المشكلة" لنا، لكنهم كانوا بحاجة، وما زالوا، إلى مساحيق تجميل لتبرير جريمة اغتصاب أرض وتشريد شعب، فكان لا بد من اختلاق رواية محبوكة، الأكاذيب فيها أكثر من الحقائق. ولكن، لماذا نلومهم، ونحن لا نقدم للعالم ما نراه الرواية الأدق، بل ونخجل منها؟
أيضا، لا يَكَلُّ المشروع الصهيوني من تكرار مزاعم حقوق دينية وتاريخية لليهود في فلسطين تلغي حقوق أصحاب الأرض الحقيقيين، كما أنها تهمش حقوق غير اليهود في مقدساتها. فمن تعسف في تفسير ما يسمونه وعداً ربانياً وأحقية في أرض الأجداد، إلى ادعاءات الهيكل وكون القدس حاضنة تاريخهم والتعبير المكثف عن هويتهم.. إلخ، كلها مزاعم تقوم على الإلغاء والعنصرية والتعالي على غيرهم من البشر. لذلك، لا غرو أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة كانت قد صنفت الحركة الصهيونية عام 1975 على "أنها شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، قبل أن تلغي الجمعية نفسها القرار أواخر عام 1991، من أسف، بطوق نجاة فلسطيني-عربي، بعد دخول منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية ما اصطلح على نعته بـ"عملية سلمية" مع إسرائيل.
المفارقة، هنا، أن إسرائيل تواصل عملية تزييف الوعي، تاريخاً وحاضراً، كما أنها مستمرة في عملية السطو على الذاكرة والتراث والحقائق والجغرافيا، في حين لا يلقي الطرف الفلسطيني-العربي بالاً لخطورة ذلك. إسرائيل تَصْطَنعُ تاريخاً وتراثاً مزيفين، في مسعى إلى زعم جذور ضاربة في الزمان والمكان، في حين يخجل أصحاب التاريخ والجذور، الضاربة حقاً، عن استحضارهما في سياق جدل المشروعية والأحقية.
لاحظ أن الزعماء الإسرائيليين لا يملّون من تلقين العالم دروساً في التاريخ المزعوم عن "إسرائيلية" تاريخ فلسطين وجغرافيتها ورمزيتها، كما فعل، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مثالاً لا حصراً، في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول عام 2011. في خطابه ذاك، قال نتنياهو: "كثيرا ما أسمع من يتهم إسرائيل بأنها تهود القدس. إن هذا مثل اتهام أميركا بأمركة واشنطن، أو بريطانيا بأنجلزة لندن. هل تعلمون لماذا نسمى يهودا؟ لأننا نأتي من يهودا (منطقة تشمل القدس والخليل وبئر السبع)". ويسترسل نتنياهو، في خطابه ذاك، ليحدثنا عن قصة خاتم أثري قديم مزعوم موجود في مكتبه في القدس، يعود إلى مسؤول يهودي من العهد التوراتي. وحسب مزاعمه، فإن الخاتم الذي وجد قريبا من الحائط الغربي للحرم الشريف يعود تاريخه إلى 2700 سنة، إلى زمن الملك حزقيل، وبأنه منقوش عليه بالعبرية اسم مسؤول يهودي، نتنياهو، وهو الاسم العائلي لنتنياهو نفسه. ثمّ يخبرنا عن تاريخ اسمه، بنيامين، والذي يعود إلى 3700 سنة، وهو ابن يعقوب، "المعروف أيضا بإسرائيل"، ليخلص إلى أن يعقوب وأبناءه عاشوا في الضفة الغربية قبل 4000 سنة، وبأن الوجود اليهودي في فلسطين مستمر من ذلك الحين لم ينقطع.
في المقابل، نجد تغييبا، ذاتيا، للرواية الفلسطينية والعربية والإسلامية. ترى كم مرة سمعنا مسؤولاً فلسطينياً واحداً يتحدث، كما يتحدث نتنياهو، أو كما يتحدث غيره من المسؤولين الإسرائيليين، بلغة الحقوق والتاريخ؟ كم مرة تكلم مسؤول سياسي فلسطيني عما تعنيه القدس في الإسلام أو المسيحية؟ كم مرة قدموا للعالم رواية القبلة الأولى، ومسرى النبي الأكرم محمد ومعراجه، وأرض ميلاد المسيح عيسى بن مريم عليه، وعلى أمه، السلام؟
كثيرا ما يردد الإسرائيليون أن قبلة المسلمين هي مكة، وأنها والمدينة المنورة البقعتان المقدستان لديهما لا غير، ولا تجد رواية رسمية فلسطينية، أو عربية، تتحدث بالثقة والقوة نفسيهما اللتين يتحدث بهما الصهاينة اليهود عن قداسة القدس والأقصى عند المسلمين وكنيستي القيامة والمهد في القدس وبيت لحم عند المسيحيين؟ واستطرادا، متى سنسمع من مسؤول فلسطيني رسمي رواية تاريخية، في خطاب أمام العالم، عن أحقية شعب فلسطين في أرضه ووطنه؟
قبل عامين تقريباً، انضممت إلى جلسة غير رسمية جمعت كاتبا فلسطينيا معروفا مع مسؤولين عرب، أحدهما من أصل فلسطيني، على هامش مؤتمر في عاصمة عربية. كان الثلاثة يتكلمون في الموضوع الفلسطيني، وفوجئت بالكاتب الفلسطيني يستهزئ بالخطاب التراثي الفلسطيني ومصطلحاته، مثل "البيارة" و"خبز الطابون" و"الدبكة" و"الأهازيج" الشعبية، وقال إننا نضيع وقتنا بهذه الترهات، في حين أن مدن فلسطين، الإسرائيلية اليوم، ترى فيها ناطحات السحاب والرقي، وبأن إسرائيل دولة متقدمة علميا وتكنولوجيا.. الخ. أردت أن أذكر الكاتب المحترم أن إسرائيل "المتقدمة" التي وصف قامت على أكاذيب تراثية، دينية وتاريخية، وبأن تلك هي مقاربتها، اليوم، لتشريع سرقتها، غير أني امتنعت عن الحديث، احتراما لدخولي الجلسة متأخرا، ومن دون أن أكون طرفا رئيسا فيها.
باختصار، كانت أوروبا العنصرية في القرن التاسع عشر تتعامل مع سكانها من اليهود على أنهم "مشكلة"، وهو ما اصطلح على توصيفه بـ "المشكلة اليهودية"، فصدّرت تلك "المشكلة" لنا، لكنهم كانوا بحاجة، وما زالوا، إلى مساحيق تجميل لتبرير جريمة اغتصاب أرض وتشريد شعب، فكان لا بد من اختلاق رواية محبوكة، الأكاذيب فيها أكثر من الحقائق. ولكن، لماذا نلومهم، ونحن لا نقدم للعالم ما نراه الرواية الأدق، بل ونخجل منها؟