13 نوفمبر 2024
الريح التي تضرب العراق
ثمّة ما يدفع رجال "النخبة" السياسية الحاكمة في العراق إلى الشعور بالدوخة ووجع الرأس جرّاء مخاوفهم من انفراط عقد "العملية السياسية" التي جاء بها الأميركيون، وانتهاء تاريخ صلاحيتهم للبقاء في السلطة، وبالتالي إطاحتهم ومكتسباتهم، وبقرار أميركي هذه المرة أيضا!
أكثر من إشارة من داخل أروقة "المنطقة الخضراء" تنم عن ذلك، جديدها ما كتبه باقر جبر الزبيدي، القطب البارز في "التحالف الوطني"، والوزير شبه الدائم الذي تنقل بين وزارات عدة منذ الغزو، ثم انزوى مستقيلا لينأى بنفسه عن مخاطر محتملة وصفها بأنها "ريح سوداء" يتعرّض لها البلد، مضيفا، في صفحته على "فيسبوك"، إن هذه الريح بدأت تضرب البلد و"الكتل السياسية منشغلة بالتسقيط والتخوين، وخور عبدالله، وحرمان العراقيين من دخول أميركا، وما تعصف بالبلد من أزماتٍ اقتصادية، وتذبذب قيمة الدينار العراقي، وارتفاع معدل البطالة ونسبة التضخم". ولم ينس أن يطلق صرخته بوجه رفاقه: "أشعر بالخطر يدهم العملية السياسية، ونحتاج إلى وقت، لكي نعرف من وراء المتغيرات المفاجئة والهزة القادمة".
الحق أن الزبيدي الذي عرفناه سابقا باسم بيان جبر، وعرفنا صلته بفرق الموت إبّان كان وزيرا للداخلية، بدا صريحا في توصيف الخطر الذي يحيط به وبأطراف "العملية السياسية" الآخرين، ولعل فضيلته تكمن في الاعتراف بأن السنوات الأربع عشرة السالفات كانت ساخنةً ومليئة بالزلازل، أنتجت كل هذه الأزمات، وأودت بالبلد في هاويةٍ لا قرار لها، وأرغمت أبناءه على طلب الحماية، مستخدمين هوياتهم الثانوية التي تجاوزها الزمن، فركن بعضهم إلى طائفة ومذهب، واعتمد آخرون على عشيرة أو قرية، ونسوا أن هناك وطنا يمكن أن يضمهم جميعا، من دون تمييز، ولا منّة.
هو ليس وحده في تشخيص الداء، فقد اعترف نوري المالكي الذي كان له فعله المعروف طوال فترتين رئاسيتين "أن الطبقة السياسية ينبغي أن لا يكون لها دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق، لأنهم فشلوا فشلا ذريعا". ولم يبرئ نفسه من المسؤولية، كذلك دقّ جرس الإنذار عمار الحكيم الذي يقدم نفسه وريثاً لزعامة دينية بائدة، ومسعود البرزاني الذي يجاهد للبقاء رئيسا لإقليم كردستان مدى الحياة، وأكّدا في بيان مشترك "حاجة العراق لمشروع جامع ومطمئن يحفظ حقوق الجميع".
هكذا يجمع رجال الطبقة التي قدّر لها أن تحكم العراق، بعد سقوط بغداد المأساوي على الإقرار بفشلهم في حكم البلاد، وتنتابهم الوساوس والمخاوف من أن ينقلب السحر على الساحر. وهذا ما دفع الحكيم نفسه، وربما بنصيحةٍ من طهران، لطرح مشروع تسوية "تاريخية"، تحمل، في طياتها، مبرّرات فشلها أكثر من مبرّرات نجاحها، فهي تريد الحفاظ على "العملية السياسية"، ولا تريد الخروج عنها، وهي لا تريد إلغاء المحاصصة الطائفية، بل تزيدها رسوخا، ولا تناقش مطلب إعادة النظر في الدستور الهجين الذي شرّعته سلطة الاحتلال، كما لا تعبر عن إرادةٍ حقيقيةٍ لبناء دولة مواطنة متساوية وقانون، وهي أيضا لا تخاطب، ولا تتعامل مع غير المنضوين تحت لواء "العملية السياسية"، وترفض الحوار أو التسويات معهم، على الرغم من إقرارها ضمنيا بالفشل في إدارة البلاد.
وحال المعارضين ليست أحسن من حال رجال الحكم، هم يعانون أيضا من الدوخة ووجع الرأس، وقد انقسموا شيعا وأحزاباً وفصائل، وكل له مشروعه الخاص، ولا يمتلكون الشجاعة للتقدّم بمبادرة عملية، يقفزون فيها فوق أنانياتهم وطموحاتهم، ليتآلفوا معا ويجمعوا على مشروع وطني شامل، ويضعوا بإخلاصٍ الأشياء في مكانها الصحيح، غير مدركين أن الريح القادمة قد تزيد من الفوضى الماثلة، وقد تهدم كيان البلد، وربما تمحوه من الخارطة.
ويثير الأسى حقا أن بعضهم أداروا عقارب ساعاتهم على توقيت البيت الأبيض، غداة فوز دونالد ترامب، معتقدين أنه يحمل في جيبه الترياق، وأنه سيتولى دور "الشرطي" بكفاءة افتقدها سلفه، وأنه سوف ينوب عنا في مقارعة الإيرانيين وإنقاذنا من شرورهم، وآخرون أتقنوا صناعة الأوهام وبيعها، وتراهم يطوفون العواصم، بحثا عمّن يمول ويدعم ويساند لوجه الله، فيما أدمن بعض ثالث جلد الذات، والبكاء على أطلال مجدٍ مضاع، وحدهم المواطنون العاديون، الفقراء والبسطاء والمحرومون، لم يعودوا في وارد التطلع إلى شيء، بعدما فقدوا الثقة كما فقدوا الأمل، وهم قانعون بالجلوس على الأرصفة، أو الغرق في بحر جنازات ومواكب ترفع رايات الدم والسواد، طالبة المعجزة ممن لا يمتلكونها.
أكثر من إشارة من داخل أروقة "المنطقة الخضراء" تنم عن ذلك، جديدها ما كتبه باقر جبر الزبيدي، القطب البارز في "التحالف الوطني"، والوزير شبه الدائم الذي تنقل بين وزارات عدة منذ الغزو، ثم انزوى مستقيلا لينأى بنفسه عن مخاطر محتملة وصفها بأنها "ريح سوداء" يتعرّض لها البلد، مضيفا، في صفحته على "فيسبوك"، إن هذه الريح بدأت تضرب البلد و"الكتل السياسية منشغلة بالتسقيط والتخوين، وخور عبدالله، وحرمان العراقيين من دخول أميركا، وما تعصف بالبلد من أزماتٍ اقتصادية، وتذبذب قيمة الدينار العراقي، وارتفاع معدل البطالة ونسبة التضخم". ولم ينس أن يطلق صرخته بوجه رفاقه: "أشعر بالخطر يدهم العملية السياسية، ونحتاج إلى وقت، لكي نعرف من وراء المتغيرات المفاجئة والهزة القادمة".
الحق أن الزبيدي الذي عرفناه سابقا باسم بيان جبر، وعرفنا صلته بفرق الموت إبّان كان وزيرا للداخلية، بدا صريحا في توصيف الخطر الذي يحيط به وبأطراف "العملية السياسية" الآخرين، ولعل فضيلته تكمن في الاعتراف بأن السنوات الأربع عشرة السالفات كانت ساخنةً ومليئة بالزلازل، أنتجت كل هذه الأزمات، وأودت بالبلد في هاويةٍ لا قرار لها، وأرغمت أبناءه على طلب الحماية، مستخدمين هوياتهم الثانوية التي تجاوزها الزمن، فركن بعضهم إلى طائفة ومذهب، واعتمد آخرون على عشيرة أو قرية، ونسوا أن هناك وطنا يمكن أن يضمهم جميعا، من دون تمييز، ولا منّة.
هو ليس وحده في تشخيص الداء، فقد اعترف نوري المالكي الذي كان له فعله المعروف طوال فترتين رئاسيتين "أن الطبقة السياسية ينبغي أن لا يكون لها دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق، لأنهم فشلوا فشلا ذريعا". ولم يبرئ نفسه من المسؤولية، كذلك دقّ جرس الإنذار عمار الحكيم الذي يقدم نفسه وريثاً لزعامة دينية بائدة، ومسعود البرزاني الذي يجاهد للبقاء رئيسا لإقليم كردستان مدى الحياة، وأكّدا في بيان مشترك "حاجة العراق لمشروع جامع ومطمئن يحفظ حقوق الجميع".
هكذا يجمع رجال الطبقة التي قدّر لها أن تحكم العراق، بعد سقوط بغداد المأساوي على الإقرار بفشلهم في حكم البلاد، وتنتابهم الوساوس والمخاوف من أن ينقلب السحر على الساحر. وهذا ما دفع الحكيم نفسه، وربما بنصيحةٍ من طهران، لطرح مشروع تسوية "تاريخية"، تحمل، في طياتها، مبرّرات فشلها أكثر من مبرّرات نجاحها، فهي تريد الحفاظ على "العملية السياسية"، ولا تريد الخروج عنها، وهي لا تريد إلغاء المحاصصة الطائفية، بل تزيدها رسوخا، ولا تناقش مطلب إعادة النظر في الدستور الهجين الذي شرّعته سلطة الاحتلال، كما لا تعبر عن إرادةٍ حقيقيةٍ لبناء دولة مواطنة متساوية وقانون، وهي أيضا لا تخاطب، ولا تتعامل مع غير المنضوين تحت لواء "العملية السياسية"، وترفض الحوار أو التسويات معهم، على الرغم من إقرارها ضمنيا بالفشل في إدارة البلاد.
وحال المعارضين ليست أحسن من حال رجال الحكم، هم يعانون أيضا من الدوخة ووجع الرأس، وقد انقسموا شيعا وأحزاباً وفصائل، وكل له مشروعه الخاص، ولا يمتلكون الشجاعة للتقدّم بمبادرة عملية، يقفزون فيها فوق أنانياتهم وطموحاتهم، ليتآلفوا معا ويجمعوا على مشروع وطني شامل، ويضعوا بإخلاصٍ الأشياء في مكانها الصحيح، غير مدركين أن الريح القادمة قد تزيد من الفوضى الماثلة، وقد تهدم كيان البلد، وربما تمحوه من الخارطة.
ويثير الأسى حقا أن بعضهم أداروا عقارب ساعاتهم على توقيت البيت الأبيض، غداة فوز دونالد ترامب، معتقدين أنه يحمل في جيبه الترياق، وأنه سيتولى دور "الشرطي" بكفاءة افتقدها سلفه، وأنه سوف ينوب عنا في مقارعة الإيرانيين وإنقاذنا من شرورهم، وآخرون أتقنوا صناعة الأوهام وبيعها، وتراهم يطوفون العواصم، بحثا عمّن يمول ويدعم ويساند لوجه الله، فيما أدمن بعض ثالث جلد الذات، والبكاء على أطلال مجدٍ مضاع، وحدهم المواطنون العاديون، الفقراء والبسطاء والمحرومون، لم يعودوا في وارد التطلع إلى شيء، بعدما فقدوا الثقة كما فقدوا الأمل، وهم قانعون بالجلوس على الأرصفة، أو الغرق في بحر جنازات ومواكب ترفع رايات الدم والسواد، طالبة المعجزة ممن لا يمتلكونها.