رغم دخول مراحل تنفيذه عامها الثالث، لا يزال ملف اقتراض مصر من صندوق النقد الدولي هو الملف الأكثر سخونة بين كل ملفات الاقتصاد المصري. ويوماً بعد يوم، يلقي هذا الملف الضوء على كثير من نقاط الضعف في الاقتصاد المصري مما لم يكن واضحاً لكثير من المتابعين والمتخصصين.
وفي الوقت الذي يتمسك فيه الصندوق بشروطه، أو لِنَقُل بإجراءات الإصلاح التي "اقترحها" على الحكومة المصرية، والتي أعلنت الحكومة التزامها بها "طواعيةً وبكامل إرادتها"، إذ إن برنامج الإصلاح الاقتصادي هو "برنامج مصري خالص" ولم يفرضه الصندوق على مصر كما يدّعون، نجد الحكومة المصرية تقدم التنازل بعد الآخر، من أجل ضمان الحصول على الدفعات المتبقية من القرض، وبالتأكيد فإن المواطن المصري هو الذي يدفع الثمن في كل تلك التنازلات.
كان من المفترض أن يتم عرض نتائج المراجعة الرابعة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري على مجلس إدارة الصندوق قبل نهاية العام، لاتخاذ قرار فيما يتعلق بالدفعة الخامسة وقبل الأخيرة من القرض المصري من الصندوق، والبالغة 2 مليار دولار، بعد أن حصلت الحكومة على 8 مليارات دولار من أصل 12 مليار دولار، هي إجمالي قيمة القرض.
وقبل أيام قليلة من موعد الاجتماع الذي كان مقرراً له التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول المنتهي، تم حذف موضوع القرض المصري من جدول الاجتماع، وتعلل المسؤول الإعلامي وقتها بأن المباحثات مع الطرف المصري لم تنته، وأن إدراج موضوع القرض على جدول أعمال مجلس إدارة الصندوق كان نتيجة لـ "مشكلة فنية"، إذ لم يتم بعد تحديد موعد العرض على مجلس إدارة الصندوق، وفقاً للمسؤول.
توالت بعد ذلك التصريحات من "مصدر حكومي مصري"، وكانت كلها تشير إلى حقيقة أن تأجيل مناقشة القرض المصري كان بسبب تأخر الحكومة في الوفاء ببعض الالتزامات، فيما يتعلق بتسعير الطاقة بالأساس، التي حان وقت الوفاء بها.
ويأتي على رأس تلك الالتزامات إيجاد آلية تسعير للمواد البترولية، تربط سعر الوقود المباع للمواطن المصري بسعره العالمي، والتي كانت الحكومة قد أكدت للصندوق نيتها بدء استخدامها في شهر ديسمبر/ كانون الأول المنتهي.
وأشارت تقارير مراجعات سابقة للصندوق إلى التزام الحكومة المصرية بإلغاء تام للدعم على كافة أنواع الوقود، باستثناء الغاز المسال، بنهاية يونيو/ حزيران 2019. كذلك أعلنت الحكومة المصرية قبل أسبوعين نيتها إلغاء دعم الكهرباء بنهاية العام المالي 2021-2022، وهو ما يعني أن المواطن المصري سيدفع السعر العالمي للوقود والكهرباء.
ومع قرار الحكومة المصرية بمنع زراعة الأرز والتوجه إلى استيراده، حماية للموارد المائية المحدودة المتاحة، والتي بدأ المواطن بالفعل في دفع تكلفتها العالمية بعد إلغاء دعم المياه، أصبح المواطن يدفع السعر العالمي للأرز، والذي يمثل الطبق الرئيسي للأغلبية الكاسحة من المصريين من محدودي الدخل الذين يرغبون في سد جوعهم بأقل التكاليف.
وبخلاف الأرز، لا يخفى على أحد أن المواطن المصري يدفع الأسعار العالمية لأغلب احتياجاته، إذ تستورد مصر نسبة لا يستهان بها من كل ما يأكله ويلبسه ويركبه المصريون.
ومع ملاحظة مستويات الدخول الضعيفة جداً في مصر، يتضح حجم المعاناة التي يعانيها وسيعانيها المصريون في الشهور المقبلة، لو استمر الحال على ما هو عليه.
وفي السنوات السابقة، كانت الحكومة المصرية ترد على الانتقادات الموجهة لها، فيما يتعلق بانخفاض مستويات الدخل لدى أغلب المصريين، بحجة أن تكلفة المعيشة في مصر منخفضة جداً بالمقارنة بكافة بلدان العالم. وبالفعل، كانت تلك حقيقة، رغم أنها لم تكن كافية كمبرر لانخفاض مستويات الدخل.
أما الآن، ومع قفزات الأسعار التي شعر بها كل من عاش في مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فلا يمكن القبول بحجة انخفاض تكلفة المعيشة، بعد أن ارتبط أغلب ما يشتريه المواطن بالسعر العالمي، بينما ظل دخله مربوطاً عند المستوى المحلي.
حل هذه المعضلة هو بالتأكيد مسؤولية الحكومة المصرية، لا صندوق النقد الدولي. ومع ذلك نجد الصندوق يصرّ على توفير بعض أشكال الدعم للفئات الأكثر ضعفاً، من دعم نقدي مباشر أو برامج تكافل اجتماعي، أو حتى مساعدة في تحقيق تقدم في ملف عمل المرأة في مصر، بينما تتلكأ الحكومة المصرية في أداء الدور المنوط بها.
وعلى الرغم من تأكدنا من وضوح هذه المفارقة لصناع القرار المصري، لا يتوقف المسؤولون، على أعلى المستويات، عن الخروج علينا من حين لآخر، لتذكيرنا بأن أسعار الوقود والكهرباء في مصر ما زالت أقل من نظيرتها في الدول الأخرى، متجاهلين التفاوت الكبير في الدخول بيننا وبينهم، الأمر الذي يجعلنا نتشكك في أهليتهم لتمثيل المصريين في المفاوضات مع الصندوق وفي الدفاع عن مصالحهم.
لا شك في تحمل المواطن المصري بعض المسؤولية في هذه المشكلة، بسبب ضعف إنتاجيته وفقاً للأرقام المعلنة، ولا شك في أن جزءاً من الحل يكمن في زيادة إنتاجية المصريين، كما زيادة الإنفاق الاستثماري للحكومة والقطاع الخاص، من أجل دفع معدلات النمو، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي.
لكن لحين الوصول إلى تحقيق ذلك، يتعين على الحكومة أن تدرك أن عربة الإصلاح الاقتصادي لن تتمكن من السير إلا على أربع عجلات، وأن أهمية عجلة "زيادة أجر الموظف المصري" لا تقل أهمية عن العجلات الأخرى، وإلا فإنها ستكون بمثابة دعوة للفساد والانحراف وزيادة معدلات الجريمة، ولا تُكلف نفسٌ إلا وسعها!