مؤشرات الواقع تختلف تمامًا عما صرح به العديد من المسؤولين السعوديين، فقد صرح مسؤولون سعوديون غير مرة بأن تراجع أسعار النفط لن يؤثر على أداء الاقتصاد السعودي، ولكن بيانات موازنة العام المالي 36/1437 التي اعتمدت الخميس 25 ديسمبر 2014، تظهر عكس ذلك.
فقد قدرت الموازنة الجديدة حجم الإيرادات بنحو 715 مليار ريال سعودي، مقارنة بـ1046 مليار ريال في عام 35/1436، أي أن الإيرادات المتوقعة للعام المالي القادم تقل بنحو 331 مليار ريال، وبنسبة تصل إلى 31.6%.
أما على جانب النفقات، فتقدر في الموازنة الجديدة بـ860 مليار ريال مقارنة بـ1100
مليار في عام 35/1436، أي أن حجم التراجع في النفقات يقدر بـ240 مليار ريال، وبنسبة تصل إلى 21.8%.
وإذا كانت أعمال موازنة العام المالي 35/1436 قد انتهت إلى عجز قدر بـ54 مليار ريال، فإن موازنة العام 36/1437 ستحقق عجزًا قدره نحو 145 مليار ريال، وبما يمثل نسبة 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي للسعودية والمقدر بـ2821 مليار ريال.
وبذلك تعود السعودية إلى عصر عجز الموازنات الذي ودعته في بداية سنوات الألفية الثالثة، مع الطفرة النفطية التي بدأت مع عام 2003، واستمرت حتى يونيو 2014. ولا ينبغي أن يُقرأ العجز في الموازنة السعودية قراءة عابرة، بل ستكون له انعكاساته الاقتصادية على الداخل والخارج كذلك.
فمعني أن تتراجع النفقات العامة بقيمة 240 مليار ريال أن الطلب الكلي لابد وأن يتأثر سلبًا؛ فالإنفاق الحكومي يؤثر في اقتصاد يعتمد على الدولة بشكل كبير، سواء كان هذا التراجع يتعلق بمشروعات عامة في مجالات الإنتاج أو الاستهلاك، أو على أقل تقدير أن تتراجع الطموحات المتعلقة بتنفيذ المشروعات العامة، أو ما يتعلق بالإنفاق العام الحكومي.
وثمة ملاحظة مهمة تخص طبيعة الإنفاق في الموازنة السعودية، وفق ما جاء في كلمة وزير الثقافة والإعلام، أن مخصصات بند الرواتب والأجور والبدلات تصل إلى نسبة 50% من إجمالي الإنفاق العام، وهي نسبة مرتفعة، وتعكس طبيعة إنفاق مترهل من أجل ترضية المواطنين، من خلال توفير وظائف غير حقيقية.
وإذا كانت نسبة 50% من مخصصات الموازنة تذهب إلى الرواتب والأجور والبدلات وما في حكمها، ونسبة البطالة في المملكة تصل إلى 10%، فكم تصل هذه المخصصات إذا أُريد أن يتم تخفيض معدلات البطالة عما هي عليه الآن؟
غياب الشفافية
بالاطلاع على المرسوم الملكي الذي اعتمدت من خلاله موازنة العام المالي 36/1437 أو بيان وزارة المالية بشأن الموازنة لنفس العام، يجد الباحث نفسه أمام مجموعة من التساؤلات التي تظهر الغموض الذي يحيط بطبيعة الموازنة، وهو ما أهّل السعودية لتكون في ذيل الدول في استبيان شفافية الموازنة لعام 2012، حيث صنفت السعودية ضمن المجموعة الخامسة والأخيرة التي توفر معلومات ضئيلة، أو لا تسمح بتوفير معلومات.
فقد تم تحديد قيمة الإيرادات ولم تحدد مصادر تلك الإيرادات، وهو ما يجعل المواطن السعودي يتساءل: ما هو حجم الإيرادات البترولية، وكم يبلغ في كل عام، وكيفية التصرف فيه؟ كما يفتقد بيان وزارة المالية والمرسوم الملكي إلى بيان المصادر الأخرى من إيرادات، ونسبتها إلى الإيرادات النفطية، وهل هذه العوائد من خلال ضرائب ورسوم، أم جبايات أخرى؟
لم تظهر البيانات المنشورة عن موازنة عام 36/1437 للسعودية طبيعة عمل السياسات المالية في الدولة، وهو أمر مهم يلفت نظر متخذ قرار الاستثمار في أية دولة، خاصة في حالة إعلان الدولة تخفيض نفقاتها بنحو 21.8%، فتوجهات السياسة المالية في الحالة السعودية وفي ظل بيانات تراجع الإنفاق تؤدي إلى استنتاج تراجع في الطلب الإجمالي، وهو ما يترتب
عليه توقعات في حالة ركود وانكماش في السوق السعودي خلال العام المالي القادم، الذي يبدأ مع حلول عام 2015.
ولم يبين المرسوم الملكي، ولا بيان وزارة المالية، كيفية تدبير العجز المقدر في الموازنة بنحو 145 مليار ريال، هل سيتم تدبيره من خلال الاقتراض المحلي، أم سيتم تدبيره من خلال التصرف في احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي؟ وكم هي تكلفة تدبير تمويل عجز الموازنة؟
ولم يشر بيان وزارة المالية، ولا المرسوم الملكي، إلى كيفية التعامل مع أزمة انهيار أسعار النفط في السنوات القادمة، وما هي السيناريوهات المتوقعة حول عجز الموازنة في السنوات القادمة، وطريقة التعامل معه وتمويله، خاصة في ظل توصية صندوق النقد الدولي للحكومة السعودية خلال الفترة الماضية بضرورة إعادة النظر في سياسات الدعم القائمة في المملكة.
هل سيكون لدى الحكومة السعودية برامج لتخفيف قيمة الدعم خلال السنوات القادمة أو إلغائه كأداة للتعامل مع قضية عجز الموازنة، إذا ما قدر لأزمة انهيار أسعار النفط أن تستمر؟
كما أن تصريح وزير الثقافة والإعلام باستحواذ الرواتب والأجور والبدلات على 50% من مخصصات الموازنة، يفرض أن يطلع المواطن السعودي على طبيعة هذا الإنفاق، ونصيب المؤسسات المختلفة في المملكة من هذا الإنفاق، وهل ثمة تفاوت كبير في توزيع هذه المخصصات أم لا؟
وهل هناك عدالة في توزيع هذه المخصصات تراعي التفاوت في الرواتب والأجور بين مختلف العاملين في المملكة، وكم هي نسبة الرواتب؟ وكم هي نسبة البدلات؟ فحقيقة الأمر أن سمة تخصيص الإنفاق في الدول النامية- والسعودية ضمن هذه الدول- غالبًا ما تكون البدلات بابًا للتفاوتات الكبيرة بين العاملين في الدولة.
وبالاطلاع على التفاصيل المحدودة المتاحة عن مخصصات الإنفاق العام في الموازنة، وُجد أن التعليم يستحوذ على نسبة 25% من الإنفاق العام، والخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية 18.6%، والخدمات البلدية على 4.6%، والتجهيزات الأساسية والنقل على 7.4%، والموارد الاقتصادية الخاصة بالإنفاق على مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي والطاقة المتجددة وصيانة الكباري والطرق على 6.9%. وهنا يظهر خلل مخصصات الإنفاق في الموازنة، حيث تزيد مخصصات بند الرواتب والأجور والبدلات عن مخصصات التعليم والصحة معًا بنسبة 6.4%.
ولم تظهر في البيانات المنشورة عن الموازنة السعودية نصيب الإنفاق على الدفاع والأمن، سواء ما يتعلق بالأمن الداخلي أو الخارجي، وإن كانت هذه البيانات تتعلق بالأمن القومي، فلا أقل من رقم إجمالي يوضح حجم الإنفاق، لإمكانية مقارنته بباقي مخصصات الإنفاق في الموازنة، خاصة أن ما ينشر عن الإنفاق على السلاح يظهر أن السعودية من أكبر الدول إنفاقًا على التسليح في المنطقة العربية.
احتياجات المهمّشين
أتى رقم المخصصات لبند الخدمات الاجتماعية في حدود 30 مليار ريال، منها ما يخص إنشاء
مقرات أندية رياضية، وكذلك بنايات أخرى لمؤسسات اجتماعية ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وكذلك زيادة مخصصات الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، وكذلك دعم برامج مكافحة الفقر.
الرقم ذكر إجمالًا من دون بيان لمخصصات كل بند فرعي داخل مخصصات الخدمات الاجتماعية. والشاهد هنا ورود دعم برامج مكافحة الفقر، والشفافية تقتضي تناول أوضاع الفقر في المملكة العربية السعودية، لتقطع هذا الجدل ومعدلات الفقر بها، حيث إنها تخضع لتقديرات هنا وهناك، حتى تحدثت بعض المصادر عن وصول معدلات الفقر إلى 30% من الشعب السعودي.
إن الحديث عن كفاية المخصصات للخدمات الاجتماعية يتوقف على معرفة حجم المهمشين والمستفيدين من هذه الخدمات، وخاصة الفقراء، الذين يتوقع لهم مزيد من الضغوط في ظل تراجع الإنفاق العام.