السلاح في خدمة القضية... والخرافة ذريعتها
هشام غانم
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!
فكانت النتائج تميل بفداحة لمن قُتلوا على أيدي أميركيين، أي بضع عشرات بإزاء عشرات الآلاف. أراد ناشرو الإحصاءات إياها القول إن خطر الإرهاب الداخلي أكبر من خطر الإرهاب الإسلامي. فبدا، للوهلة الأولى، أنّ أصحابنا الليبراليين سددوا لكمة "منطقية" مفحمة لأنصار السلاح في الولايات المتحدة، وكشفوا تناقضهم ونفاقهم، ولاسيما أن هؤلاء الأخيرين من أشد المعارضين لدخول اللاجئين أميركا.
لكنْ إذا عرفنا أهمية السلاح ومركزيته، تاريخياً ودينياً وثقافياً، في أميركا؛ يمكننا القول إنه ليس في الأمر تناقض. يُرفع السلاح في الولايات المتحدة إلى مرتبة عليا، وربما قدسية، إلى حد إباحة حمله واقتنائه بنصٍّ دستوري، قلما وُجد دستور غيره يفعل ذلك. وغنيّ عن الذكر أن الدستور الأميركي هو أرفع وأقدس وثيقة في الولايات المتحدة.
وإذا كان صعود الفردية وتوسّع الحريات والخشية من تغوّل الحكومة الفدرالية الذرائع المعلنة لحمل السلاح؛ فالجذور الدينية هي ما أكسبت تلك الذرائع قوّتها وأمدّتها بالحياة، منذ أواخر القرن الثامن عشر.
وهي جذور دينية فيها شيء من الخرافة والأسطورة والملاحم البطولية وكثيرٌ من الانتهازية، فضلاً عن التأويل المتعسّف لمقاصد الآباء المؤسسين من تشريع السلاح في الملحق الثاني من الدستور.
ففي القرن الثامن عشر، عندما كان لا يزال للكنيسة كلمة مسموعة، واظب جمع من رؤساء الكنائس، في مقدمتهم بريغهام يونغ وجون تيلور وجورج كانون، نقلاً عن الأنبياء في الإنجيل طبعاً، على التحشيد لمزاعم مفادها التحذير من خطر قادم على أميركا يهدد بتدميرها، إلا أن الشعب سيهبّ للدفاع عنها وعن الدستور. أما إذا وقع الخطر وعجز الشعب أو تقاعس عن القيام بالمهة الجليلة، فسوف يبعث الله آباء إسرائيل القديمة، يحمون الأمة، وينشرون الحرية والعدل ويمدون يد العون لكل أمم الأرض المظلومة.
فهذه الأمة بوركت وتعمّدت بـ"يد الرب"، وهي (أميركا)، بصفتها ملجأً للبروتستانت، إنما لها غاية مسيحية ومكان في التاريخ وُضعا حصراً ليحملا أمانةً من الله. وما الدستور إلا التجسيد لذاك المكان وتلك الغاية، صاغه الآباء المؤسسون، مدفوعين بإرادة الله ومعتقداتهم المسيحية. بل وأبعد من ذلك، ورغماً ربما عن إرادة الآباء المؤسسين، يعدّ الدستور مانيفيستو الفلسفة المسيحية ومرآةً لله نفسه. ذلك أن الله هو القاضي وخالق القانون ومطبّقه، ولذا جُعلت السلطات الثلاث (القضائية والتشريعية والتنفيذية) في أميركا مكافئاً لله. ولهذا أيضاً يُنظى إلى الحقوق في الدستور على أنها "حقوق طبيعية"، أي ممنوحة من الله وليست من صنع البشر.
وأبعد من ذلك، يرى أصحاب النظرة القيامية هؤلاء أن الولايات المتحدة هي حامية الشعب اليهودي، بل إن أميركا نفسها هي صهيون الجديد. وما دامت القوانين تعكس قيم الإنجيل (وفي القلب من ذلك الدفاع عن النفس، أي السلاح)، فستبقى الأمة محفوظة في عين الله. فإذا استرسل الهذيان، بدا أن أميركا المقصودة هنا ليست نفسها التي نعرفها، أي التي "اكتشفها" كريستوفر كولومبوس، نهاية القرن الخامس عشر، بل أميركا متخيّلة موجودة منذ 2000 عام.
وهذا كله قد يفسّر استماتة الجمهوريين، وترامب على وجه الخصوص، في تعيين القاضي نيل غورسيتش لشغل المقعد الشاغر في المحكمة العليا. فالأخير يوصف بأنه أوريجيناليست، أو "سلفي" بلغة هذه الأيام، أي أنه يميل إلى تفسير الدستور وفقاً لمقاصد الآباء المؤسسين وليس لظاهر النص وراهنيته.
غير أنّ الأفكار، مهما بلغت سطوتها، تبقى طريّة العود ما لم تسندها قوة مادية على الأرض. لأجل هذا تأسس "اتحاد البندقية الوطني" NRA، أواخر القرن التاسع عشر، على يد ويليام تشيرش وجورج وينغيت، وهو من أقدم منظمات المجتمع المدني في أميركا (رغم تناقض العبارة!) وواحد من ضمن أقوى ثلاثة لوبيات أو جماعات ضغط في واشنطن، وأكثرها نفوذا وتأثيراً في التشريعات والدعاوى القضائية ودعم المرشحين الرئاسيين أو معارضتهم.
وعلى هذا، فسلاح الأميركي الأبيض سلاح مقدّس منذور إلى غاية سامية. حتى وإن أدى إلى قتل أكثر، يبقى أقل خطراً من اللاجئ المسلم المشتبه به، تعريفاً.
أما إذا كان من معنى في كل ذلك، فهو في قدرة الخرافات والأخيلة على صنع الوقائع أكثر بكثير مما تفعل الحقائق. فالماضي لا يمضي تماماً، والأموات يحكمون من قبورهم، من ويليام تشيرش وجورج وينغيت إلى حافظ الأسد.
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!