في جدليّة السياق والحدث
هشام غانم
هشام غانم
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!
خلقُ مسافة نفسية وزمنية بيننا وبين الماضي أو المستقبل ليس أمراً سهلاً. من هنا هوسُ البشر في السفر عبر الزمن، الماضي أو المستقبل. بل إن هناك صناعة سينمائية كاملة في هذا الباب، أي العبور إلى المستقبل. وهذا، أي العجز عن خلق مسافة بين الزمنين الماضي والحاضر، مدخل أساسي لفهم تصدي بعض المناضلين لمن يقول قولاً موضوعياً في حدث تاريخي.
يضاف إلى هذا الخلل الإدراكي مقدارٌ ملحوظ من الجهل والدوغما والعماء الأيديولوجي وسخونة الرأس، والمستندة كلها إلى استقاء "المعرفة" من الميمز والكوميكس والمقاطع التسجيلية المجتزأة، والكثير الكثير من سوء النية. وللمسافة إياها ضرورة تتجاوز ذلك، فتمتد إلى فهم الحدث التاريخي نفسه. فإذا كان الحدث هو اللوحة فالمسافة هي الإطار. غير أن الأهم من المسافة، هو "السياق".
فهذا الأخير يسبغ على الأحداث والأشياء معانيها. لكنّ السياق، على خلاف ما يتوهم أصحابنا أعلاه، ليس تبريراً أو سبباً، فلا السياق يسعى إلى الانحطاط إلى سبب، ولا هذا يمكن أن يرتقي إلى السياق. وإذا كان السبب هو خالق النتيجة، فالسياق هو الوسط أو البيئة أو المحيط الذي يسبح في السبب والنتيجة معاً. بل إن غلاة التفكيك يذهبون أبعد من ذلك. ففي زعم إمامهم جاك ديريدا، أن العبارة لا تمسي عبارةً إلا إذا انفكّت عن أو من سياقها الأصلي. لا معنى إذاً من غير سياق. ومع ذلك، الغرق في السياق هو أيضاً ضربٌ من الخروج عن السياق أو عليه. ذلك أن السياق أحياناً يحتاج إلى سياق، وما هو أكثر من السياق ربما، أي إلى الصلة. فالاشتباك مع أي قضية يترجّح بين حدّين متقابلين، هما السياق والصلة، فإذا حاز المشتبكُ القليلَ من أيّهما، باتت فرص الظفر بالقضية أضأل. فعلى سبيل المثال، حين تتناول مسألة رياضية مثل ١+١=٢، فأنت ذو صلة كلية بالقضية وبظروفها القريبة والمحددة، لكنك تفتقر إلى السياق بسبب فائض التجريد الرياضي في هذه المسألة. بينما إذا أردت تناولَ وجود الله مثلاً، فأنت تحوز فائضاً في السياق، لكنك تفتقر إلى الصلة العملية. بهذا المعنى، عدم الاكتراث بالسياق سلفية. والغرق في السياق انفصال عن الواقع.
مناسبة هذا كله هي المشادّة التي اندلعت في ذكرى ثورة أو انقلاب 23 يوليو 1952 قبل أيام. فحين قال طرفٌ إن تقييم قائد الثورة أو الانقلاب، جمال عبد الناصر، يجب أن يأخذ السياق الدولي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في الاعتبار، وأن الماضي يجب أن لا يُحاكَم بمعايير الحاضر، وأن ناصر كان مارداً حاز كل شروط الزعامة الحقيقية في زمنه؛ زُجر الطرف هذا ونُهر وعُدّت مقالته تبريراً لسياسات عبد الناصر اللا ديموقراطية. وهذه التهمة الأخيرة لا تبدو ذات قيمة من غير فهم السياق التاريخي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ففي ذلك الزمن كانت الديموقراطيات تعدّ على أصابع اليدين، إذا كنا كرماء. لقد عاش ناصر الحربين العظميين، اللتين مات فيهما 100 مليون إنسان. أما ثورته أو انقلابه فقد حدث غداة تتويج الحرب الثانية بقنبلتين ذرّيتين، هذا بينما عالم جديد جعل يتشكّل ويحمل في هذا التشكّل إرهاصات التداعي والانهيار. وفي البال مذابح الاستعمار في أفريقيا، ولا سيما الكونغو. وفي خلفية كل ذلك كانت إمبراطوريات تغرب شمسها وقوى عظمى تصعد. هذا فضلاً عن اندلاع الحرب الكورية وقيام الثورة الكوبية وحرب فيتنام، والحرب الأهلية اليونانية وبلوغ الصراع بين القطبين ذروة حربهما الباردة، أي إبان أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا، التي كادت أن تحول العالم إلى محرقة عظيمة. ومصر الناصرية، والفاروقية قبلها، كانت في قلب الصراع هذا وأحياناً ساحة أو مسرحاً من مسارحه، وخصوصاً بسبب وجود قناة السويس فيها.
ومجدداً، هذا لا يبرر سلطوية عبد الناصر ولا يجعل إلغاءه الأحزابَ وضمّها في كيان عجيب هو "الاتحاد الاشتراكي" شيئاً صحيحاً، لكن من جهة ثانية، قلة الطلب على الديموقراطية آنذاك لا تجعل فعلَ ناصر كارثة تستحق الندب. بل لا شيء يجعل الصحّ غلطاً والغلط صحيحاً، لكن نظرتنا للصح والغلط، بعد فهم السياق، لا تصبح هي هي. السياق يمدّ النظر ويوسّع المناظير، يضيء الهوامش ويزيد مساحات الشك والالتباس بينما يقلل اليقيني ويضيّق القطعي. وبإزاء ذلك أيضاً، لا يمكن الإغماض عن التناقض المميت الذي يقع فيه منكرو ثورة عبد الناصر وكارهوه، لجهة الانتهازية والاستعمالية في التعامل مع السياق، استدعاءً واستبعاداً. فهم عند الحديث عن واقعنا الحالي، ولا سيما بعد استيلاء نظام عبد الفتاح السيسي على مصر وانتصار الثورات المضادة، يستحضرون الماضي كله، معتبرين الراهن امتداداً لذاك الماضي، ناسبين كوارث اليوم إلى السياق الناصري وانقلاب يوليو؛ وفي الوقت نفسه ينهون عن استدعاء السياق حين الحديث عن الماضي الناصري. ليست هذه العجالة مديحاً لناصر أو هجاءً لكارهيه، لكنها تذكيرٌ ربما بأنّ رجلاً وقف في وجه إمبرياليات، وامتلك كاريزما طاغية، محلياً ودولياً، وخاض حروباً على جبهات متعددة، انتصر في بعض وهُزم في بعض، وكان زعيماً حقيقياً وصوتاً حراً من جنوب العالم، وأسس مع تيتو يوغسلافيا ونهرو الهند حركة عدم الانحياز؛ رجلاً هذا شأنه، ربما يتعيّن أخذه على المحمل الجدّ، أكثر بكثير من مجرّد اعتباره ميم فيسبوكية.
يضاف إلى هذا الخلل الإدراكي مقدارٌ ملحوظ من الجهل والدوغما والعماء الأيديولوجي وسخونة الرأس، والمستندة كلها إلى استقاء "المعرفة" من الميمز والكوميكس والمقاطع التسجيلية المجتزأة، والكثير الكثير من سوء النية. وللمسافة إياها ضرورة تتجاوز ذلك، فتمتد إلى فهم الحدث التاريخي نفسه. فإذا كان الحدث هو اللوحة فالمسافة هي الإطار. غير أن الأهم من المسافة، هو "السياق".
فهذا الأخير يسبغ على الأحداث والأشياء معانيها. لكنّ السياق، على خلاف ما يتوهم أصحابنا أعلاه، ليس تبريراً أو سبباً، فلا السياق يسعى إلى الانحطاط إلى سبب، ولا هذا يمكن أن يرتقي إلى السياق. وإذا كان السبب هو خالق النتيجة، فالسياق هو الوسط أو البيئة أو المحيط الذي يسبح في السبب والنتيجة معاً. بل إن غلاة التفكيك يذهبون أبعد من ذلك. ففي زعم إمامهم جاك ديريدا، أن العبارة لا تمسي عبارةً إلا إذا انفكّت عن أو من سياقها الأصلي. لا معنى إذاً من غير سياق. ومع ذلك، الغرق في السياق هو أيضاً ضربٌ من الخروج عن السياق أو عليه. ذلك أن السياق أحياناً يحتاج إلى سياق، وما هو أكثر من السياق ربما، أي إلى الصلة. فالاشتباك مع أي قضية يترجّح بين حدّين متقابلين، هما السياق والصلة، فإذا حاز المشتبكُ القليلَ من أيّهما، باتت فرص الظفر بالقضية أضأل. فعلى سبيل المثال، حين تتناول مسألة رياضية مثل ١+١=٢، فأنت ذو صلة كلية بالقضية وبظروفها القريبة والمحددة، لكنك تفتقر إلى السياق بسبب فائض التجريد الرياضي في هذه المسألة. بينما إذا أردت تناولَ وجود الله مثلاً، فأنت تحوز فائضاً في السياق، لكنك تفتقر إلى الصلة العملية. بهذا المعنى، عدم الاكتراث بالسياق سلفية. والغرق في السياق انفصال عن الواقع.
مناسبة هذا كله هي المشادّة التي اندلعت في ذكرى ثورة أو انقلاب 23 يوليو 1952 قبل أيام. فحين قال طرفٌ إن تقييم قائد الثورة أو الانقلاب، جمال عبد الناصر، يجب أن يأخذ السياق الدولي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في الاعتبار، وأن الماضي يجب أن لا يُحاكَم بمعايير الحاضر، وأن ناصر كان مارداً حاز كل شروط الزعامة الحقيقية في زمنه؛ زُجر الطرف هذا ونُهر وعُدّت مقالته تبريراً لسياسات عبد الناصر اللا ديموقراطية. وهذه التهمة الأخيرة لا تبدو ذات قيمة من غير فهم السياق التاريخي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ففي ذلك الزمن كانت الديموقراطيات تعدّ على أصابع اليدين، إذا كنا كرماء. لقد عاش ناصر الحربين العظميين، اللتين مات فيهما 100 مليون إنسان. أما ثورته أو انقلابه فقد حدث غداة تتويج الحرب الثانية بقنبلتين ذرّيتين، هذا بينما عالم جديد جعل يتشكّل ويحمل في هذا التشكّل إرهاصات التداعي والانهيار. وفي البال مذابح الاستعمار في أفريقيا، ولا سيما الكونغو. وفي خلفية كل ذلك كانت إمبراطوريات تغرب شمسها وقوى عظمى تصعد. هذا فضلاً عن اندلاع الحرب الكورية وقيام الثورة الكوبية وحرب فيتنام، والحرب الأهلية اليونانية وبلوغ الصراع بين القطبين ذروة حربهما الباردة، أي إبان أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا، التي كادت أن تحول العالم إلى محرقة عظيمة. ومصر الناصرية، والفاروقية قبلها، كانت في قلب الصراع هذا وأحياناً ساحة أو مسرحاً من مسارحه، وخصوصاً بسبب وجود قناة السويس فيها.
ومجدداً، هذا لا يبرر سلطوية عبد الناصر ولا يجعل إلغاءه الأحزابَ وضمّها في كيان عجيب هو "الاتحاد الاشتراكي" شيئاً صحيحاً، لكن من جهة ثانية، قلة الطلب على الديموقراطية آنذاك لا تجعل فعلَ ناصر كارثة تستحق الندب. بل لا شيء يجعل الصحّ غلطاً والغلط صحيحاً، لكن نظرتنا للصح والغلط، بعد فهم السياق، لا تصبح هي هي. السياق يمدّ النظر ويوسّع المناظير، يضيء الهوامش ويزيد مساحات الشك والالتباس بينما يقلل اليقيني ويضيّق القطعي. وبإزاء ذلك أيضاً، لا يمكن الإغماض عن التناقض المميت الذي يقع فيه منكرو ثورة عبد الناصر وكارهوه، لجهة الانتهازية والاستعمالية في التعامل مع السياق، استدعاءً واستبعاداً. فهم عند الحديث عن واقعنا الحالي، ولا سيما بعد استيلاء نظام عبد الفتاح السيسي على مصر وانتصار الثورات المضادة، يستحضرون الماضي كله، معتبرين الراهن امتداداً لذاك الماضي، ناسبين كوارث اليوم إلى السياق الناصري وانقلاب يوليو؛ وفي الوقت نفسه ينهون عن استدعاء السياق حين الحديث عن الماضي الناصري. ليست هذه العجالة مديحاً لناصر أو هجاءً لكارهيه، لكنها تذكيرٌ ربما بأنّ رجلاً وقف في وجه إمبرياليات، وامتلك كاريزما طاغية، محلياً ودولياً، وخاض حروباً على جبهات متعددة، انتصر في بعض وهُزم في بعض، وكان زعيماً حقيقياً وصوتاً حراً من جنوب العالم، وأسس مع تيتو يوغسلافيا ونهرو الهند حركة عدم الانحياز؛ رجلاً هذا شأنه، ربما يتعيّن أخذه على المحمل الجدّ، أكثر بكثير من مجرّد اعتباره ميم فيسبوكية.
دلالات
هشام غانم
كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!
هشام غانم
مدونات أخرى
10 ديسمبر 2020
25 أكتوبر 2019
01 اغسطس 2019
25 سبتمبر 2017