السنغال بلد التعدُّد: الجغرافيات العرقية والروحية ركيزة الاستقرار الأفريقي

06 مايو 2016
علاقات قوية تربط المغرب والسنغال (فرانس برس)
+ الخط -
السنغال هو أقرب بلدان أفريقيا إلى العالم العربي، ليس على مستوى الجغرافيا، بل لاعتبارات كثيرة، منها أن شعب هذه الدولة التي يدين أكثر من 90 في المائة من سكانها بالإسلام، شديد التعلّق بالطرق الصوفية التي وصلته من بلدان المغرب العربي منذ حوالي قرنين لتأخذ مكانها في نمط الحياة العام، ويصبح لها تأثيرها ودورها على مستوى التطور الاجتماعي والتعليمي والثقافي في البلد ككل.

أقرب البلدان العربية من الناحية الجغرافية إلى السنغال هي موريتانيا، وعلى الرغم من أن نهر السنغال الذي يتجاوز طوله 1800 كيلومتر يرسم الحدود الفاصلة بين البلدين بطول 400 كيلومتر، فإنه ظلّ يشكّل شريان التواصل على الرغم من التباعد الذي كان يحصل في فترات متعددة بسبب نزاعات الزراعة والرعي منذ العام 1981 على الجانب الموريتاني من نهر السنغال. هذه النزاعات لم يعد لها اليوم أي أثر، بل إن الخلافات الحدودية انتهت باتفاق على تقاسم النهر الذي كان يُعرف قديماً عند المؤرخين العرب والمسلمين باسم نهر صنهاجة، وهؤلاء كانوا يسمون السنغال بلاد صنهاجة تيمّناً باسم القبيلة الأمازيغية التي نشرت الإسلام في السنغال في القرن الحادي عشر ميلادي، وبعد ذلك أخذ البلد اسم السنغال من النطق بلغة "الولف" (أكبر مجموعة عرقية محلية) المحلية سونو غال بمعنى قاربنا، ولكن في رواية أخرى هو تحريف لكلمة زنكال التي أطلقتها قبيلة صنهاجة عليه.

للموريتانيين حضور خاص في السنغال، فهم جيران وتجار، ويلاحظ الزائر مدى انتشارهم في هذا البلد من دون أية مشكلة. ولا تعرف علاقتهم بالسنغاليين أية حواجز أو عقبات، ولولا بعض العلامات الفارقة بين العربي والأفريقي لتعذر تمييز الموريتاني من أهل البلاد بعد أن تم إيجاد حلول نهائية للخلافات القديمة، من خلال تفاهم البلدين اللذين تجاوزا النزاع المائي إلى التعاون في استغلال الغاز، الذي جرى اكتشافه على الحدود البحرية بين البلدين، وحصل لقاء بصدده بين الرئيس السنغالي ماكي صال ونظيره الموريتاني محمد ولد عبد العزيز جرى الاتفاق خلاله على الإدارة المشتركة للغاز والنفط في المناطق الحدودية. ووفقاً للمعلومات المتداولة، فإن احتياطيات الحقول الغازية تقدر بأكثر من 15 تريليون قدم مكعب، وهو ما يكفي لتحويل موريتانيا والسنغال بعد أربعة أعوام إلى مصاف مصدّري الغاز الطبيعي، بعد تلبية احتياجات الطاقة في كلا البلدين.

وعلى الرغم من قرب موريتانيا من السنغال، فإن العلاقات الثنائية ليست كتلك التي تربط بين المغرب والسنغال؛ ففي حين عرفت علاقات نواكشوط وداكار توترات في الماضي، فالعكس هو الذي يطبع علاقات الرباط مع داكار، بل إن المغرب قام بدور رسول المصالحة والتلاقي بين الطرفين، وهذا يفسر المعنى الرمزي للجسر الذي قرر المغرب تشييده على نهر السنغال في إطار تطوير حركة النقل. ومن يتأمل تاريخ السنغال الحديث، سيجد أن المغرب هو الحاضر الأكبر في هذا البلد الذي تربطه صلات بالمملكة المغربية تعود إلى أكثر من ألف عام. أما على صعيد التاريخ القريب، فتفيد بعض كتابات الدبلوماسيين المغاربة الذين خدموا في السنغال منذ الاستقلال، بأن المغاربة على صلة بعيدة في هذا البلد والبعض منهم اندمج في المجتمع السنغالي ولم يعُد إلى أرض الآباء والأجداد، واعتمد المغرب على هؤلاء التجار الذين يحتلون سوقاً كاملاً في داكار (شارع محمد الخامس)، وباتوا سفراء للعلاقات بين البلدين، حتى أن أحدهم محمد مكوار الذي أصبح سفيراً فعلياً عام 1981، كان يمتلك أكبر مصنع للقماش تغطي بضاعته المغرب وموريتانيا وأفريقيا.

تقوم العلاقات بين المغرب والسنغال على ثلاث ركائز أساسية: أولاً الطريقة الصوفية التيجانية التي تنتشر بقوة في السنغال ومرجعها الرئيسي سيدي أحمد التيجاني (1737-1815) المدفون في مدينة فاس في المغرب. وبرز دور الطرق الصوفية على نحو كبير في السنوات الأخيرة في مواجهة فكر التطرف الذي تنشره جماعات قريبة من تنظيم القاعدة، وقد عبّر هذا الوضع عن نفسه في مالي البلد المجاور للسنغال وتربطه به علاقات متميزة، حيث كانا في يوم الاستقلال عن فرنسا عام 1960 يشكّلان دولة واحدة، لم تلبث أن انقسمت بسرعة إلى مالي والسنغال. وعلى عكس السنغال، فقد دفعت مالي ثمن غزو التطرف في الأعوام الأخيرة، الأمر الذي استدرج التدخّل العسكري الفرنسي، وأدى إلى اهتزاز التجربة الديمقراطية الهشة في هذا البلد.


ولا تقف الطرق الصوفية هنا عند كونها قوة إشعاع روحي فقط، بل إن انتماء عدد من رجالات السياسة لها يجعل لها مكانة سياسية في الوقت نفسه ضمن نظرة بعيدة إلى تعدّد الهويات وتنوّع مكونات الجغرافيا الروحية والعرقية التي تشكّل صمام أمان لهذا البلد وأحد عناصر قوته، وهذا أمر لمسه كافة الرؤساء الذين تداولوا على حكم هذا البلاد على اختلاف الدرجات بين الاشتراكيين (ليوبولد سنغور وعبدو ضيوف) والديمقراطي (عبدالله واد) والليبرالي (الرئيس الحالي ماكي صال). ونظراً لتعاظم حضور هذه الطريقة وتأثيرها، قام ملك المغرب محمد السادس بتعيين ممثل رسمي لها في بلاده، وصار يحرص في زياراته للسنغال على لقاء زعمائها. وكان الملك الحسن الثاني قد أخرج العلاقات من طابعها الشعبي إلى تنظيمها في إطار مؤسسي بإنشاء رابطة علماء المغرب والسنغال عام 1985. وشكّلت الطرق الصوفية الموالية، "لوبي" ضاغطاً في القضايا السياسية الكبرى، لا سيما قضية الصحراء. فكلما تغير موقف من المواقف لدى بعض الدول الأفريقية من هذه القضية لصالح الجزائر أو جبهة البوليساريو، كانت الجماعات الصوفية تضغط على حكوماتها لمراجعة موقفها ومناصرة المغرب.

الركيزة الثانية هي التجارة وحرية الحركة والإقامة، إذ يعدّ السنغال البلد رقم واحد في الاستثمارات المغربية الموجّهة للخارج، كما أن الاتفاقات الثنائية منذ الستينيات ألغت تأشيرة الدخول والإقامة بين البلدين، ووصلت العلاقات التجارية البينية مصافاً متقدماً، حتى أنها تجاوزت في حجمها العلاقات السنغالية الفرنسية، بل إن العديد من المصارف الفرنسية صارت تتعامل مع السنغال عبر المصارف المغربية. ويتصرف المغاربة في داكار بارتياح شديد حتى أن البعض منهم يعتبر نفسه من أهل البلاد. واللافت للانتباه هو رد الفعل من الطرف المقابل على المستويين الرسمي والشعبي، إذ يحظى المغاربة بمعاملة مميزة من أهل السنغال الذين يتصفون عموماً بالانفتاح.
أما الركيزة الثالثة فتتمثل في التعليم، إذ يشكّل خريجو الجامعات المغربية من السنغاليين أفضل سفراء للمغرب، ويُعدّ المغرب بعد فرنسا وجهة الدراسات العليا، بل إنه يتفوق على فرنسا في استقطاب الكوادر السنغالية نظراً للتسهيلات الكبيرة التي يقدّمها المغرب للطلبة الأفارقة.
وقد لخص الرئيس السنغالي ماكي صال العلاقات بين البلدين بقوله: "منذ زمن القوافل العابرة للصحراء وعهد الموحدين، دأب شعبانا على معرفة بعضهما البعض، ونسجا صداقة متينة ازدادت رسوخاً عبر الزمن وتجاوزت تقلبات الظروف"، معتبراً أن التاريخ المشترك يرتكز على "القيم الأساسية التي تربطنا، وهي قيم تنهل من ينابيع الإيمان والثقافة".

وتطوّرت العلاقات المغربية السنغالية على نحو متميز منذ أن حكم الحزب الديمقراطي السنغال عام 2000 بوصول عبدالله واد إلى رئاسة الدولة، الرجل الذي امتلك نظرة خاصة إلى قضية الصحراء، تمثّلت في تأييد موقف المغرب، وهذا ما يفسر الزيارات المتكررة لملك المغرب محمد السادس في تلك الفترة، واستمرت العلاقات وتطورت أكثر في عهد ماكي صال الذي واصل السياسة نفسها، وعمل على تعميقها لتصبح استراتيجية في كافة المجالات.
ثمة مقولة رائجة مفادها بأن السنغال لديه أربعة أصدقاء دائمين منذ زمن طويل، لا يتغيرون وهم فرنسا، المغرب، الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وهذا يعني أنه في العلاقة مع المغرب يرتبط روحياً في المقام الأول، ومع فرنسا يواصل الإرث الإيجابي المشترك للتاريخ الخاص، ومع السعودية يذهب نحو العمق الإسلامي، حيث الحرمان الشريفان، ومع الولايات المتحدة البعد الدولي المؤثر الذي لا مفر منه. ويولي السنغال مكانته الدولية عناية خاصة، وهذا أمر مدروس ومتوافق عليه بين النخب التي حكمت هذا البلد، الذي يعدّ الوحيد في أفريقيا الذي لم يعرف مرض الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، وهذا ما يجعله محط ثقة دولية، الأمر الذي يمكن فهمه أكثر من خلال التعويل الدولي على مشاركة السنغال في قوات الأمم المتحدة الخاصة بعمليات حفظ السلام عبر العالم، حيث يحتل المرتبة الأولى في هذا الميدان.

ومهما يكن من أمر، تبقى لفرنسا مكانة خاصة حتى اليوم لها ثقل التاريخ المشترك، فالاستعمار الأوروبي بدأ بالتسلل إلى السنغال في القرن الخامس عشر من أجل تجارة العبيد في المقام الأول، وتتالت عدة دول، البرتغال، بريطانيا، ألمانيا، ثم فرنسا التي احتلته بالكامل وظلت تحكمه حتى الاستقلال عام 1960، ولهذا السبب انطبع البلد بالطابع الفرنسي بعد قرنين من الاستعمار الفرنسي الذي ركّز ثقله على السنغال بسبب موقعه المتميز في غرب أفريقيا. بالإضافة إلى أن هذا البلد كان من أكثر بلدان افريقيا تماسكاً على مستوى الشخصية العامة، وهذا ما كانت تحتاج له فرنسا كقوة استعمارية. وهناك من يعزو وحدة السنغاليين إلى تأثير الدين الاسلامي، وهذا أحد أسباب اعتماد فرنسا عليهم كمحاربين في جيوشها خلال الحربين وفي المستعمرات الأخرى في الهند الصينية.

وعلى الرغم من حصول السنغال على الاستقلال عام 1960، فإنه بقي يدور في الفلك الفرنسي على المستويات كافة، فأول رئيس للسنغال المستقل هو الشاعر ليوبولد سنغور الوزير السابق في الحكومة الفرنسية، وحتى حين ترك الحكم عام 1980 وخلفه عبدو ضيوف، فإنه غادر داكار ليعيش في باريس ويصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وبقي هناك حتى وفاته عام 2001 ثم جرى نقل رفاته ليدفن في بلده. ولم يكن خليفته عبدو ضيوف أضعف صلة بفرنسا، حيث تولّى من باريس رئاسة المنظمة الفرنكوفونية بعد خسارته الانتخابات الرئاسية عام 2000 أمام منافسه عبدالله واد مؤسس الحزب الديمقراطي الذي أنهى حكم الاشتراكيين للبلد، وعبدالله واد نفسه انتقل ليعيش في باريس بعد أن غادر الرئاسة عام 2012، بعدما حاول أن يعدل الدستور ليحظى بولاية ثالثة، ولكنه خسر الرهان أمام الرئيس الحالي ماكي صال.

يبدو السنغال اليوم مختلفاً مع صال الذي وصل إلى الرئاسة بعد أن كسب الجولة في إبريل/نيسان عام 2012 ضد عبدالله واد. فهذا المهندس الجيولوجي الذي ولد عام 1961 يعمل وفق منهج مختلف عن أسلافه بالاعتماد على تعزيز الديمقراطية والانفتاح على محيط السنغال الأفريقي والإسلامي. ويقول المساعدون المقربون منه إنه يولي أهمية كبيرة لمبادرة التنمية في أفريقيا (نيباد) التي يرأسها الآن، من أجل تحقيق النهضة في القارة عن طريق الحكم الرشيد بعد عقود من الحروب والصراعات. وتركّز المبادرة على تعزيز البنى التحتية وإصلاح الزراعة وحل مشاكل الطاقة، وفي حين يرى فيه الأفارقة محامياً جيداً عن أفريقيا بسبب سجله النظيف، فإنه يعمل على الصعيد الداخلي لإحداث نقلة اقتصادية، والبحث عن شركاء جدد مع عدم التفريط بالشركاء القدامى.