حمل استئنافُ الرئيس السودانيّ عمر البشير مهامه، يوم الثلاثاء، من بيت الضيافة في الخرطوم، معانٍ سياسية تخطّت الإطار الطبيّ لـ"الرجل المريض" منذ فترة. فبعدما لازم الفراش "الأبيض" قرابة الشهر، إثر عملية جراحية خضع لها في مستشفى خاص في السودان، أصرّ على دعوة وسائل الإعلام المحلية والفضائية لالتقاط صور له أثناء عمله من داخل بيت الضيافة الذي يقيم فيه، ربما بقصد بعث رسالةٍ على المستويين المحلي والعالمي، تؤكد أن صحته بخير، بعد اللغط الذي أعقب إعلان القصر الرئاسي عن إخضاع البشير لعملية جراحية لتغيير إحدى ركبتيه في مايو/أيار الماضي، ليعود "الهمس" عن احتمال حصول انقلاب في بلد الانقلابات.
مباشرة البشير لمهامه من داخل بيت الضيافة، وليس القصر الرئاسي، أثارت جدلاً آخرَ حول مدى مقدرة الرجل على مزاولة نشاطه بشكل جدّي، ولا سيما أنّ الأنباء تؤكد أن العملية التي خضع لها تُعتبر خطرة للغاية، وأن نتيجتها لن تظهر بالكامل قبل انقضاء ستة شهور من تاريخ إجرائها.
ودرج الرئيس على الاستشفاء في السعودية التي زارها مرّات عدّة، عندما كان يعاني آلاماً في حلقه، نصحه الأطباء حينها بالكفّ عن الكلام. وقد تكون أزمة العلاقات السودانية ــ السعودية الحالية، قد حالت دون سفر البشير إلى الرياض للاستشفاء، خصوصاً بعد إعلان الرياض حزمة إجراءات اقتصادية ضد السودان، قضت بإيقاف جميع التحويلات المصرفية، إلى جانب منع تصدير سلع استهلاكية معينة إلى الخرطوم، على هامش قرار المملكة بتصنيف "الإخوان المسلمين" كإرهابيين وحظر دخولهم الرياض.
كما سبق للرياض أن منعت طائرة البشير من المرور عبر أجوائها لإيران، وأعادت الطائرة إلى الخرطوم، وخصوصاً أن المملكة تنظر لعلاقة الخرطوم بطهران بعين الريبة والشك وتتخوف من تلك العلاقة.
وأثار غيابُ البشير عن الساحة السياسية، جدلاً واسعاً حول وضعه الصحي ومدى قدرته على مواصلة مهامه، ولاسيما أن اعتراف الرئاسة، للمرة الأولى، بمرضه، وخضوعه لعملية جراحية، أعقبتها أحداث كثيرة أصابت عملية الحوار التي تبناها "الرئيس المريض". من بين تلك الأحداث، اعتقال وسجن رئيس حزب الأمة القومي، الصادق المهدي، اللاعب الرئيسي ضمن أحزاب المعارضة في عملية الحوار، ومهندسه والأقرب وجدانياً إلى البشير. وتردد أن الرئيس قال لعدد من المقربين منه، إنه إذا ضاقت الأحوال به، فسيسلّم الحكم للصادق المهدي. كما أن شكوكاً عديدة تفيد بوجود اتفاق سري بين البشير والمهدي أوصل ابن الزعيم المعارِض، عبد الرحمن، إلى منصب مساعد رئيس الجمهورية، بهدف منح البشير شرعية أكبر.
والحدث الثاني الذي أعقب مرض البشير، تراجُعُ الحريات الإعلامية والسياسية بشكل يشير لعودة البلاد إلى المربع الاول؛ هكذا، علّق جهاز الأمن صحيفة سياسية يومية هي "الصيحة" بسبب فتحها ملفات فساد. كما تصدّت الشرطة بالغاز المسيل للدموع لموكب سلمي خاص بحزب الأمة، ورفضت السلطات المحلية منح الحزب نفسه إذناً بإقامة نشاط يوم الاربعاء، احتجاجاً على اعتقال المهدي منذ أكثر من ثلاثة أسابيع.
كلّ تلك الإجراءات وغيرها من ارتداد على القرارات التي أصدرها البشير أخيراً، والخاصة بقضية الحريات، تطرح تساؤلات عن الموقف الحقيقي للبشير، تحديداً في ظل التسريبات التي تشير إلى أن الرئيس بات مقتنعاً بأن صحته لن تمكنه من الاستمرار أكثر في الحكم، وتحمل أعبائه. وسبق للرجل أن ردّد ذلك في لقاء مفتوح مع أعضاء حزبه، طالبهم فيه بإفساح المجال أمام الشباب، معرباً عن عدم رغبته بالترشح للانتخابات المقبلة في 2015. وتشير معلومات في الخرطوم، إلى أن البشير يهدف، من خلال الحوار، إلى إيجاد طريق آمن لترك السلطة من دون أن يتعرض للاعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
وعندما يتمعّن المراقب بإعلان جهاز الأمن عن نشر ثلاثة ألوية (ما يعادل ثلاثة آلاف جندي) من قوات الدعم السريع المثيرة للجدل، والمعروفة بـ"الجنجويد"، في أنحاء العاصمة "لحمايتها"، رغم أن تلك القوات درج على الاستعانة بها في مناطق العمليات بإقليم دارفور وجنوب كردفان، فيمكن اعتبار أن الخطوة قد تكون استباقاً لحدث متوقع، أو أن تلك القوات تحضّر لخطوة كبيرة يتم الاستعداد لها. خطوة يبدو أن قيادة تلك القوات نفسها لا تعرف ماهيتها، بدليل أن قائدها، محمد حميدتي، اعترف بأنه تم إحضاره من نيالا في دارفور، إلى الخرطوم، من دون أن يكون لديه علم مسبق بالمهمة التي جاء من أجلها. واكتفى حميدتي بالقول: "عموماً، الوقاية خير من العلاج"، في إشارة تفيد، بحسب البعض، بأن هدف جلب "الجنجويد" كان لدرء انقلاب ما، في حال حاولت إحدى الأطراف استغلال مرض الرئيس. ويُرجَّح أن يكون التخوف الأكبر مصدره أطرافٌ من الحزب الحاكم أو من الحكومة نفسها، ولا سيما في بلد معروف بالانقلابات تاريخياً، وتحديداً لأن هناك صراعاً خفياً بين أطراف متنفذة داخل النظام، ترى أنها الأجدر بخلافة البشير.
عموماً، الوضع في السودان، بحسب المعطيات على الأرض، يؤكد أن أمراً ما يتم التحضير له داخل الغرف المغلقة، وقد يمثل عاصفة قوية تضرب المشهد المتجمد حالياً. وتزداد بورصة هذه التقديرات حين يتم ربط المشهد الداخلي بالإطار الإقليمي والعام المتصل بالدول المجاورة للسودان، لاسيما مصر وليبيا.