14 نوفمبر 2024
السودان والجزائر.. مواجهة خطاب الهزيمة والثورة المضادّة
ما زالت انتفاضة الشعبين السوداني والجزائري مستمرة، وهي بحكم حيويتها وإصرار مكوناتها على الانتصار، تفتح أبواباً للتساؤلات، وتعطي أيضاً دروساً وخبرات، وخصوصاً ما تشهده من تحولات في الشعارات والمطالب وتكتيكات الحركة، وما تحققه من انتصارات بنظام النقاط، في مباراة مفتوحة بين الثورة وقوى السلطة القديمة أو الثورة المضادة. وتشارك في الانتفاضتين قطاعات واسعة تمارس ديمقراطية مباشرة، عبر حراك الميادين والشوارع، قوى شعبية متعطشة للتغيير، واسترداد كرامتها، بينها قوى سياسية تبرز في المشهد تريد أن تشغل محلّ الراحلين.
تزيد الانتفاضتان الأسئلة بشأن الانتفاضات في القرن الحادي والعشرين.. لماذا تطول، وتستمر في تحقيق مكاسب، لكنها لا تحسم فوزها سريعاً؟ أو لماذا لم تهزم مبكراً كسابقتها من انتفاضات وحركات جماهيرية قريبة من حيث الحدث والتكوين وأطراف الصراع؟
يعتبر الحراك المستمر في البلدين نتاج تحضيرات سابقة وجولات من الصراع، بعضها كان ظاهراً في السودان، بين قوى الثورة والسلطة، بينما أقل وضوحاً في الجزائر، شمل صراعاً بين مكونات السلطة في ما بينها، وبين قوى الاحتجاج والسلطة من جانب آخر، بينما كان كلاهما وما زالا تعبيراً عن رغبة عارمة للتحرّر والكرامة، فلا يمكن أن تندلع ثورة إلا في ظل فرصة سياسية، تتلخص في ضعف مكونات النظام وتفسخه، وقوة الحراك، وتوفر أسباب التعبئة الجماهيرية على المستويين، الاقتصادي والسياسي، وحتى الثقافي والنفسي، الذي يمكن إجماله
في رغبة الشعبين بالشعور بالكرامة وتحقيقها.
يعود استمرار الحراك في البلدين إلى رغبة في تحقيق تغيير حقيقي، مع عدم وجود ضمانات وأدوات ضغط غير الحراك ذاته. واستفاد الشعبان الجزائري والسوداني من تجربة مصر في هذا السياق، قرّرا أن يستمر الضغط شهوراً متتالية، فالثوار مرابطون في الميادين، وخصوصاً السودانيين في الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش، وفشلت حتى الآن محاولات فضه، أو تقسيم كتلته الرئيسية وتفتيتها، على الرغم من اللعب على التناقضات السياسية، والأصوات الإصلاحية، وتهديدات المجلس العسكري، وضغوط دول إقليمية ونصائحها، فمثّل الحراك السوداني تجمعاً شعبياً رقابياً، وأداة ضغطٍ من أجل حماية الثورة وتنفيذ مطالبها. وفي الجزائر، تؤكد التظاهرات المستمرة والمليونية مطالبها بنقل السلطة ومحاسبة العصابة التي كانت تحكم خلف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
ليست وحسب مسألة تنفيذ مطالب الثورة والرقابة على حكم "الجنرالات" في الفترة الانتقالية، المراد إنهاؤها، هو ما يدفع الحراك إلى الاستمرار، ففي كلا البلدين أدى التجريف السياسي إلى عدم جاهزية القوى السياسية على الاستيلاء على السلطة، وتقديم نفسها بديلاً قادراً على إدارة جهاز الدولة.
تريد القوى الصلبة (الجيشان السوداني والجزائري) التي ورثت الحكم وإدارة الدولتين بشكل منفرد، بعد تنحية عمر البشير وبوتفليقة وإبعاد مكونات سلطتهما، صدارة المشهد، والاستحواذ على الحكم، أو ترتيب الأوضاع لآخرين، بما يضمن مصالحهم وسلامتهم. وينتهز الجنرالات كعادتهم "الانتفاضة" ليتقدموا الصفوف، وهو ما تشابه في كل الثورات العربية، باستثناء تونس التي لم يتصدّر جيشُها المشهد السياسي طويلاً، ولم يعبر عن أطماع أو شروط لمن يحكم مستقبلاً، ولكن هذا ليس محل ترحيب، ولذلك سيستمر الحراك فترة لينتصر، ويحقق بعض مطالبه، أو يضعف بفعل الإجهاد الثوري، وعوامل التفتيت والتدخلات الأخرى.
ولعل من أهمية قيمة الانتفاضتين، اندلاعهما بعد مرور ثماني سنوات من الثورات العربية، التي ما زالت تجلياتها وانعكاساتها مستمرة، وتنوعت فيها النتائج ما بين الهزيمة والإخفاق أو تعثر عملية التغيير على الصعيدين، السياسي والاجتماعي. وتزيد من أهمية الانتفاضتين محاولات الشعبين الفكاك من عوامل الهزيمة السابقة لثورات مشابهة، أدّت فيها العسكرة في بعض الانتفاضات، وأسلمتها أو تطييفها أو اتباع الأساليب الثلاثة، إلى هزيمة ثقيلة.
تحاول ثورتا السودان والجزائر تجاوز هذا المصير، تتجنّبان محاولات تفتيت قواهما، وتحويل الصراع ما بين الشعب المقهور والسلطة القاهرة إلى تناحر وانقسام على أسس شكلية وثقافية بين قوى الثورة، كما حدث من قبل في مصر، أو ما حدث في سورية من عسكرة من جانب وتعميق الانقسامات بين قوى الثورة من جانب آخر، وتعاظم أثر التدخلات الإقليمية إلى حد
الارتهان لها. وهنا استخدمت سورية وليبيا نموذجين معطلين لتمدّد الثورات العربية.
تجاوز حراكا الجزائر والسودان حتى الآن هذا النموذج (العسكرة والانقسام والارتهان لقوى الخارج)، وأعطيا الأمل في إمكانية مغادرة حالة التخويف وإرهاب النظم بنموذجي سورية وليبيا، وهما المثالان الأكثر رواجاً لدى قوى الثورة المضادة، ويتم تصديرهما "بعبعا" وأداتي تخويف وإدانة للثورة، بل التحذير من أي حراك مطلبي اقتصادي، حتى لو كان جزئياً، أو تعبير سياسي، حتى لو كان إصلاحياً.
لم يعد كافياً لنظم الثورة المضادّة الآن استخدام نماذج الإخفاق الثوري، فزاعةً لكي تهزم كل التجارب والمحاولات التي تدعو إلى التغيير، فقد قدمت الانتفاضتان السودانية والجزائرية مخرجاً مضاداً لنموذج إدانة أي حراكٍ جماهيري، بل يمكن أن تكون انتفاضة الشعبين، بسلمية الثورة ووعيها وتعبيرها الحضاري، نموذجاً للتسويق ضد نموذج الثورة المضادة المدعومة بوضوح من تحالفٍ إقليمي اختار معاداة ثورات الشعوب، تحت دعاوى الخوف من الأسلمة وتفتيت الأوطان، والحفاظ على الأمن القومي، فسعى إلى أن لا يمر نموذج ثوري أو انتفاضة شعبية، من دون إفشالها أو احتوائها على الأقل.
ويذكر أن نتائج الانتخابات الليبية بعد الثورة كانت مفاجئة، لم يفز الإسلاميون أو أتباع نظام
معمر القذافي بالأغلبية، فازت أصوات مدنية ليبرالية، وهنا التقت مصالح قوى دولية مع مصالح الثورة المضادة، خوفاً من تشكل نموذج ديمقراطي في ليبيا يكسر فرضيتها الأساسية حول انقسام ليبيا ما بعد القذافي، أو فرضية خطورة سيطرة الإسلاميين على نظم ما بعد الثورة. لم ترد القوى الدولية نموذجاً ديمقراطياً، فهذا يهدّد مصالحها وسيطرتها على ثروات ليبيا. ثم تمت أسلمة الحراك وعسكرته معاً، وأدى ضعف التجربة السياسية وقصرها إلى تعقد الوضع، وكانت فرنسا وإيطاليا، وما زالتا لاعبتين أساسيتين في الصراع، وباقي الأطراف توابع لهذا الاصطفاف الذي يدمر ليبيا الآن. ويتم اليوم إدانة التقسيم والحرب، ورد أسبابهما إلى ثورة الشعب الليبي ضد الديكتاتور، وكأن الديكتاتورية حافظة الأوطان، وسبيلها الوحيد إلى الوحدة. وكان مطلوباً أن تهزم الثورات العربية في كل ميدان، وتظل سطوة الجنرالات ونهب القوى الدولية للدول والشعوب قائمة.
تقدم الجزائر والسودان هنا، بخصائص الحراك وحضارته وسلميته ونفسه الطويل، درساً ونموذجاً يردّ على قوى الثورة المضادّة. تستفيد التجربتان في البلدين من تجارب سابقة، وخصوصاً تجربة مصر، التي تتجلى على ألسنة ثوار الجزائر والسودان، بأننا تعلمنا الدرس. نريد سلطة مدنية وانتخابات ديمقراطية وبرامج عاجلة لعلاج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ونرفض التدخل الإقليمي في شؤوننا. وما زالت الانتفاضتان، على الرغم من خمسة أشهر، صامدتين مصرّتين على الانتصار.
يعتبر الحراك المستمر في البلدين نتاج تحضيرات سابقة وجولات من الصراع، بعضها كان ظاهراً في السودان، بين قوى الثورة والسلطة، بينما أقل وضوحاً في الجزائر، شمل صراعاً بين مكونات السلطة في ما بينها، وبين قوى الاحتجاج والسلطة من جانب آخر، بينما كان كلاهما وما زالا تعبيراً عن رغبة عارمة للتحرّر والكرامة، فلا يمكن أن تندلع ثورة إلا في ظل فرصة سياسية، تتلخص في ضعف مكونات النظام وتفسخه، وقوة الحراك، وتوفر أسباب التعبئة الجماهيرية على المستويين، الاقتصادي والسياسي، وحتى الثقافي والنفسي، الذي يمكن إجماله
يعود استمرار الحراك في البلدين إلى رغبة في تحقيق تغيير حقيقي، مع عدم وجود ضمانات وأدوات ضغط غير الحراك ذاته. واستفاد الشعبان الجزائري والسوداني من تجربة مصر في هذا السياق، قرّرا أن يستمر الضغط شهوراً متتالية، فالثوار مرابطون في الميادين، وخصوصاً السودانيين في الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش، وفشلت حتى الآن محاولات فضه، أو تقسيم كتلته الرئيسية وتفتيتها، على الرغم من اللعب على التناقضات السياسية، والأصوات الإصلاحية، وتهديدات المجلس العسكري، وضغوط دول إقليمية ونصائحها، فمثّل الحراك السوداني تجمعاً شعبياً رقابياً، وأداة ضغطٍ من أجل حماية الثورة وتنفيذ مطالبها. وفي الجزائر، تؤكد التظاهرات المستمرة والمليونية مطالبها بنقل السلطة ومحاسبة العصابة التي كانت تحكم خلف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
ليست وحسب مسألة تنفيذ مطالب الثورة والرقابة على حكم "الجنرالات" في الفترة الانتقالية، المراد إنهاؤها، هو ما يدفع الحراك إلى الاستمرار، ففي كلا البلدين أدى التجريف السياسي إلى عدم جاهزية القوى السياسية على الاستيلاء على السلطة، وتقديم نفسها بديلاً قادراً على إدارة جهاز الدولة.
تريد القوى الصلبة (الجيشان السوداني والجزائري) التي ورثت الحكم وإدارة الدولتين بشكل منفرد، بعد تنحية عمر البشير وبوتفليقة وإبعاد مكونات سلطتهما، صدارة المشهد، والاستحواذ على الحكم، أو ترتيب الأوضاع لآخرين، بما يضمن مصالحهم وسلامتهم. وينتهز الجنرالات كعادتهم "الانتفاضة" ليتقدموا الصفوف، وهو ما تشابه في كل الثورات العربية، باستثناء تونس التي لم يتصدّر جيشُها المشهد السياسي طويلاً، ولم يعبر عن أطماع أو شروط لمن يحكم مستقبلاً، ولكن هذا ليس محل ترحيب، ولذلك سيستمر الحراك فترة لينتصر، ويحقق بعض مطالبه، أو يضعف بفعل الإجهاد الثوري، وعوامل التفتيت والتدخلات الأخرى.
ولعل من أهمية قيمة الانتفاضتين، اندلاعهما بعد مرور ثماني سنوات من الثورات العربية، التي ما زالت تجلياتها وانعكاساتها مستمرة، وتنوعت فيها النتائج ما بين الهزيمة والإخفاق أو تعثر عملية التغيير على الصعيدين، السياسي والاجتماعي. وتزيد من أهمية الانتفاضتين محاولات الشعبين الفكاك من عوامل الهزيمة السابقة لثورات مشابهة، أدّت فيها العسكرة في بعض الانتفاضات، وأسلمتها أو تطييفها أو اتباع الأساليب الثلاثة، إلى هزيمة ثقيلة.
تحاول ثورتا السودان والجزائر تجاوز هذا المصير، تتجنّبان محاولات تفتيت قواهما، وتحويل الصراع ما بين الشعب المقهور والسلطة القاهرة إلى تناحر وانقسام على أسس شكلية وثقافية بين قوى الثورة، كما حدث من قبل في مصر، أو ما حدث في سورية من عسكرة من جانب وتعميق الانقسامات بين قوى الثورة من جانب آخر، وتعاظم أثر التدخلات الإقليمية إلى حد
تجاوز حراكا الجزائر والسودان حتى الآن هذا النموذج (العسكرة والانقسام والارتهان لقوى الخارج)، وأعطيا الأمل في إمكانية مغادرة حالة التخويف وإرهاب النظم بنموذجي سورية وليبيا، وهما المثالان الأكثر رواجاً لدى قوى الثورة المضادة، ويتم تصديرهما "بعبعا" وأداتي تخويف وإدانة للثورة، بل التحذير من أي حراك مطلبي اقتصادي، حتى لو كان جزئياً، أو تعبير سياسي، حتى لو كان إصلاحياً.
لم يعد كافياً لنظم الثورة المضادّة الآن استخدام نماذج الإخفاق الثوري، فزاعةً لكي تهزم كل التجارب والمحاولات التي تدعو إلى التغيير، فقد قدمت الانتفاضتان السودانية والجزائرية مخرجاً مضاداً لنموذج إدانة أي حراكٍ جماهيري، بل يمكن أن تكون انتفاضة الشعبين، بسلمية الثورة ووعيها وتعبيرها الحضاري، نموذجاً للتسويق ضد نموذج الثورة المضادة المدعومة بوضوح من تحالفٍ إقليمي اختار معاداة ثورات الشعوب، تحت دعاوى الخوف من الأسلمة وتفتيت الأوطان، والحفاظ على الأمن القومي، فسعى إلى أن لا يمر نموذج ثوري أو انتفاضة شعبية، من دون إفشالها أو احتوائها على الأقل.
ويذكر أن نتائج الانتخابات الليبية بعد الثورة كانت مفاجئة، لم يفز الإسلاميون أو أتباع نظام
تقدم الجزائر والسودان هنا، بخصائص الحراك وحضارته وسلميته ونفسه الطويل، درساً ونموذجاً يردّ على قوى الثورة المضادّة. تستفيد التجربتان في البلدين من تجارب سابقة، وخصوصاً تجربة مصر، التي تتجلى على ألسنة ثوار الجزائر والسودان، بأننا تعلمنا الدرس. نريد سلطة مدنية وانتخابات ديمقراطية وبرامج عاجلة لعلاج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ونرفض التدخل الإقليمي في شؤوننا. وما زالت الانتفاضتان، على الرغم من خمسة أشهر، صامدتين مصرّتين على الانتصار.