ما إن غربت الشمس خلفَ الساتر الترابي الذي يرسمُ الحدود الأردنية ــ السورية، في الناحية الشمالية الشرقية على بعد 450 كيلومتراً من العاصمة عمّان، وهبط الظلام الدامس الذي لم يخدشه سوى أضواء سيارات قوات حرس الحدود الأردنية، حتى بدأ جَمعُ اللاجئين السوريين بالتقدم صوب الجانب الأردني.
أخفى الظلام أعدادهم وهم يجتازون المنطقة المحرمة بين الساترين الأردني والسوري، والتي يتجاوز طولها، هناك، سبعة كيلومترات. وكلما اقتربوا من الأضواء، أفشت ظلالهم الممتدة على الأرض الصحراوية، ضخامة العدد، وكشف اللهاث المتعالي عن مشقة الرحلة التي قطعوها نساء ورجالاً، شيباً وشباباً وأطفالاً.
ما يزيد على خمسمائة لاجئ سوري دخلوا الأردن في وقت متأخر من مساء أول من أمس الاثنين، عبر معبر "الحدلات" غير الشرعي على الحدود الشمالية الشرقية للأردن. دخول كان في استقباله "العربي الجديد" فضلاً عن عدد محدود من وسائل الإعلام في جولة نظمتها قوات حرس الحدود الأردنية لتتبع دخول اللاجئين السوريين إلى المملكة.
"وصلنا". عبارة كسر تردادها على ألسنتهم صمت المكان. حقاً لقد وصلوا، وكان كل شيء معدا لهم سلفاً، عبوات المياه التي تتطاير بين أيديهم، ومثلها قطع البسكويت التي وفرتها قوات حرس الحدود. وفي الخلف سيارة إسعاف تبحث عن جرحى في صفوف اللاجئين، وفي نهاية المشهد المُعدّ بإحكام، ثلاث ناقلات عسكرية لنقلهم إلى نقاط تجميع اللاجئين، وهي المحطة الأولى لتجهيزهم قبل نقلهم إلى مخيم الزعتري للاجئين السوريين المقام في محافظة المفرق (80 كيلومتراً شمال عمّان).
ويعتبر معبر "الحدلات" غير الشرعي، واحداً من 45 معبراً غير شرعي يأتيه اللاجئون على طول الحدود الأردنية ــ السورية البالغة 370 كيلومتراً، بحسب قائد قوات حرس الحدود العميد الركن حسين الزيود.
روايات في الظلام
تحت جنح الظلام، وقبل نقلهم إلى مركز تجميع اللاجئين، روى عدد منهم لـ " العربي الجديد" رحلة لجوئهم. أكبر العابرين كانت أم فراج (79 عاماً). قدمت من ريف السويداء مع ابنها الوحيد وزوجته وتسعة من الأحفاد، قالت بوجه يختفي تحت الوشم "ما ظل لنا شي، هربنا".
تحلم، وهي التي تتّكئ على عكازها في يدها اليمنى، وتستند على ابنها باليسرى، بحياة أفضل، وتقول " إن شاء الله العيشة أحسن في الأردن"، وتوزع الدعاء على كل من يقترب منها، وهو الدعاء الذي لم تستثنِ منه السماسرة الذين أوصلوها إلى الحدود بعد أربعة أيام من التنقل.
يخبرنا ابنها فراج أنه دفع للسماسرة (16 ألف ليرة سورية) عن كل فرد، في مقابل إيصالهم إلى الحدود. وخلافاً لوالدته وجه للسماسرة الشتائم، فهم أجبروهم على المبيت ليلتين في "زريبة" من دون طعام وماء قبل السماح لهم بعبور المنطقة المحرمة.
مثلهم دفع أبو محمد - القادم من درعا مع عائلته كاملة، والمكونة من 73 شخصاً - للسماسرة مليون ليرة للوصول إلى هنا، بعد رحلة استغرقت 8 أيام.
يقول إنه "في الطريق، قابلتنا حواجز للجيش النظامي. فتشونا وفتشوا إذا ما كان بيننا مطلوبين، وسمحوا لنا بالمرور". لا يعلم أبو محمد ما إذا كان السماسرة قدموا رشوة لقوات جيش النظام على الحاجز، لكنه يؤكد أنهم كانوا يعلمون أن وجهتهم الأردن للجوء.
يفضل اللاجئون أن يسلكوا طريق اللجوء، ويعبروا الحدود تحت جنح الظلام، على قاعدة أن "الليل يحمينا من قوات النظام".
وفي حين يتخوف الرجال من أن توثّقهم عدسة الكاميرا، يتدافع الأطفال طالبين تصويرهم. هكذا فعل ابن السادسة، عماد، القادم مع عائلته من حمص، فتدافع خلفه الأطفال للغرض نفسه.
تتضاءل الطفولة عندما يتحدثون. تتضاءل حين يبدأ الاطفال باستعراض ما عايشوه: طائرات، براميل، قنص، مسلحين، مدارس مغلقة.
طفل في الثانية عشرة من عمره، تحدث عن زميله في المدرسة الذي قتل، قبل أن تغلق مدرستهم أبوابها، قال "مات في القصف". وقبل أن يواصل كلامه، ناداه والده واختفى في جموع المتدافعين على ركوب الناقلات.
قبل الزعتري
في مركز تجميع اللاجئين حيث يُنقلون، يصطفّون في طوابير لتسجيلهم والتدقيق في هوياتهم. يؤكد قائد حرس الحدود على أهمية الخطوة والتي تتيح لهم ضبط الإرهابيين والمتسلّلين غير الشرعيين، وعناصر النظام السوري الذين يحاولون الدخول بصحبة اللاجئين.
وعرض الزيود صوراً لأحد عناصر الاستخبارات السورية الذي ضبطته قوات حرس الحدود نهاية العام 2013 متخفياً في ثياب فتاة، ويقول إنه "توجد تعليمات صارمة بمنع دخول متسللين عبر الحدود بطرق غير شرعية"، معلناً أن الخطر الأساسي الذي يهدد بلاده هو تسلل الجماعات الإرهابية والمتطرفة. كما تمنع تعليمات استقبال اللاجئين دخول أي لاجئ لا يحمل أوراقاً ثبوتية.
ويبلغ عدد اللاجئين السوريين الذين دخلوا إلى الأردن عبر المنافذ غير الشرعية منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، وحتى نهاية فبراير/ شباط الماضي، 462538 لاجئاً، منهم 458299 مدنياً و4239 عسكرياً.
نام اللاجئون ليلتهم في مركز التجميع، حيث سيمضون ليالي متعددة في مخيم الزعتري الذي ينتظر وصولهم، وقد اعترفوا، لحظة عبورهم الحدود، بمعرفتهم بمصيرهم المنتظر.