قبل ستين عاماً، صدرت الطبعة الأولى من رواية "موبي ديك"، بترجمة إحسان عباس. قرأتها منزوعةَ الغلاف، مِن بسطة كُتب في القدس، صيف 1979. وبعد عقد ونصف، أعدت قراءتها بطبعة جديدة.
اليوم، أفتقد النسختيْن، وأحسّ بحنين لا إلى القراءة الثالثة فحسب، إنما إلى مَن خاض عُباب ذلك المحيط الزاخر، وهو في أوائل عقده الثالث، ورجَعَ إلينا بتلك الجوهرة.
أتخيّله وهو يستقطع الوقتَ خارجَ دوامه المدرسيّ، فيُكبّ على إنجليزية هنري ملفيل القديمة، وما حَوَت من معلومات ومغاليق، متأنّياً، سَمِحاً، وحوله سراجٌ واهن النور، ليلةً إثر ليلة، وشهراً وراء شهر، حتى أَتمّ العمل. ترى، أيّ مناقبيّة كانت تخفق بين حنايا الشاب؟
وكيف استطاع عبور المحيط، والعودة بعملٍ عالي القامة والقيمة، دون أن يبتلّ أو يضلّ أو حتى يغرق؟ وأية لغة ناصعة دقيقة تلك التي امتلكها، فجعلتنا نشعر أننا بإزاء أصلٍ لا صورة؟ وماذا لو لم تأخذه انشغالاتُ التحقيق التراثيّ والأكاديمي، فأعطى وقتاً أكبر للترجمة الإبداعية؟
ستأخذني ذكرياتي الشخصية مع تينك النسختين، إلى مسارب شتى، وإلى تداعيات تنهال، لا عفو الخاطر، بل مربوطة بحالنا، عن حال ثلّةٍ من مُترجمينا هذه الأيام. هؤلاء الذين يرهقوننا ببضاعة، أنيقة المظهر، خاوية المخبر.
كان إحسان عباس موظفاً لدى ضميره الثقافي ومستقبل أُمته الناهضة، لا لدى مقاولين في أزمنة انحطاط. هذا هو الفرق.