بعد نجاح حرفوش ابن برقوق الراكبدار، في الوصول إلى قلعة الجبل بالقاهرة لإجراء اللقاء، وإلى مصر طلبًا للمدد والمساعدة في فكّ الحصار عن مدينة رشيد التي أغارت عليها قوّات المحتل الإنكليزي، والمشهد من فيلم "رسالة إلى الوالي" (1998)، للمخرج نادر جلال، يكتشف أن الجالسين في مجلس الخليفة مجرّد تماثيل لا تسمع ولا تبصر، فانهال عليها ضربًا وتدميرًا. حرفوش مبعوث آت من زمن ماض، يجد نفسه في أتون تناقضات وتقلّبات مصر الحاضر، ولا دليل يساعده على الفهم غير الدكتورة إيناس.
يجلس حرفوش جانبًا والتأثّر بادٍ عليه.
حرفوش: أنا حاسس أن مصر في خطر. التاريخ بيعيد نفسه ولازم أوصّل رسالتي. حاسس إنه في خطر على مصر. مين الوالي الأيّام ده؟
إيناس: احنا معندناش والي، احنا عندنا ريّس.
حرفوش: ريّس؟ وده عثماني ولا ألباني؟
إيناس: ولا عثماني ولا ألباني.. مصري.
حرفوش: مصري؟ عجيبة. مصري يحكم مصر. وده مين اللي اختاره؟
إيناس: احنا.
حرفوش: انتو مين؟
إيناس: احنا المصريين.
حرفوش: مصريين؟ هما اللي اختاروا الريّس. واختاروه ليه؟
إيناس: لأنه كان بطل من أبطال حرب أكتوبر.
حرفوش: مين أكتوبر؟
إيناس: الحرب اللي بيننا وبين إسرائيل.
حرفوش: مين إسرائيل؟
إيناس: إسرائيل، دولة اليهود.
حرفوش: دولة اليهود؟ من امتى اليهود كان ليهم دولة؟
إيناس: ده حكاية طويلة.
حرفوش: والريّس ده حارب وانتصر؟
إيناس: انتصر.
حرفوش: يعني فارس، يبقى حيفهمني، لازم أقابله.
إيناس: تقابل مين؟
حرفوش: أقابل الريّس. فين قلعته؟
إيناس: لأ. هو مش في قلعة. هو في القبة، كبري القبة.
حرفوش: وهو بيعمل ايه ع الكبري؟
إيناس: لأ. قصر الرئاسة في القبة.
حرفوش: لازم أقابلو. يالله بينا.
إيناس: تقابل مين؟ انت عايز تودينا في داهية.
حرفوش: مفيش وقت يالله بينا.
هكذا كان يُقدَّم الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في السينما ومختلف وسائل الإعلام والمقرّرات الدراسية، بطلًا للحرب والسلام وبانيًا للدولة المصرية الحديثة، وراعيًا للديمقراطية وحقوق الإنسان. هي صورة نمطية تنتقل من رئيس إلى آخر ومن زعيم إلى زعيم على طول جغرافيا الديكتاتورية والاستبداد من المحيط إلى الخليج.
فالزعيم بطلٌ ملهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كانت من شائبة في حكمه المديد، فمرجعها البطانة الفاسدة قبل أن يصير الشعب هو المسؤول عن أي تقصير في أدبيات عهد ما بعد "الربيع العربي". خطاب التأليه والتمجيد الذي سيطر لعقود ولا يزال على العقلية العربية حكامًا وجماهيرًا، أفضى في النهاية لوضع عام متدهور تكلّست فيه العقول، وانتفت خلاله الحلول الإبداعية وسيطر الفساد في البر والبحر. وكان لزامًا أن يحدث شيءٌ ما يحرّك المياه الآسنة، فأشعل البوعزيزي النار في نفسه، ولم يكن السبّاق لذلك لكنه القدر ومعه بعض من إرادة القوى العالمية الكبرى التي أرادت فكان لها ما أرادت.
خرج المصريون إلى الشوارع في الخامس والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني من العام 2011، فوجدت القنوات التلفزيونية في ذاك الحدث فرصة لتعويض ما فاتها في التجربة التونسية المفاجئة، توزّعت الكاميرات ومعها المراسلون الميدانيون في شتى بقاع أرض الكنانة، تنقل الأحداث لحظة بلحظة وتنشر فيديوهات الهواة التي صارت مادة أساسية في نشرات الأخبار.
هكذا، عاش العرب على وقع أكبر برنامج تلفزيون واقع باسم "إسقاط الرئيس أكاديمي"، وفيه تابعنا يوميّات المشاركين من رجال السلطة وأجهزتها ومن الناشطين المحتجّين وفعالياتهم في انتظار يوم الحسم والتصويت: يوم الجمعة حين تتحوّل الميادين المختلفة إلى قلب نابض للبلد.
في "قلب البلد"، في فيلم "الشتا اللي فات" (2013)، للمخرج إبراهيم البطوط، تُزَوّر الحقائق وتُلبَس المقاس الذي تختاره السلطة من النفي إلى القبول باحتشام؛ فمحاولة النيل من الحقيقة إلى مجاراة الوقائع بعد أن يفتضح أمرها أمام العالم. وقتها يصير أمر اللعب على المقاسات قد تجاوز خياطي و"ترزيي" النظام.
"قلب البلد" لم يكن مجرّد برنامج في تلفزيون الحكومة في فيلم "الشتا اللي فات"، بل هو فضاء باتساع الوطن، معبّر عن توجّه إعلامي، وصناعة أكاذيب دأبت السلطة في الدول المستبدّة على تسخيرها، لتلميع صورة النظام والحاكم في برامج تعذيب نفسي رهيب للمتابعين.
كم كان المشهد معبرًا، أن يجتمع مدير التلفزيون الحكومي مع منشط برنامج "قلب البلد" داخل غرفة الماكياج، للحديث عن أفضل الوسائل للتطرّق لأحداث الخامس والعشرين من يناير، فالمهمة الأسمى لهذا الإعلام تجميل وجه نظام قبيح ولو خرج المواطنون منادين بسقوطه، أو على الأقل إصلاحه حتى اللحظة تلك.
ولأنه إعلام "حرب" على المواطن، ما كان له إلا أن "يستضيف" لواءات الشرطة الحانقين على "شوية عيال ولاد كلب وزبالة، عيال ما تربتش، بتوع النت والوساخة والمسخرة والكلام الفاضي"، "هو إيه اللي حاصل في البلد؟".
لازمة ردّدها عدد من شخصيات فيلم "الشتا اللي فات" طوال أحداثه، دون أن يتلقوا من "المتعلمين" جوابًا. الشعب في غالبيته جالس على الكنبة يتنقل بين القنوات دون قدرة على الفهم، في وقت يحرص فيه القائمون وراء تلك الآلة الإعلامية "المتوحّشة" على تشكيل وعيه وتوجهه العام.
ما أشبه اليوم بالبارحة وما أشبه ذاك الشتاء بالخريف الذي نحياه، مرّت ثلاثة أيّام أولى من الحراك المصري، دون أن تؤشر إلى كفة مائلة لهذا الطرف أو ذاك، حتى حلول مساء "جمعة الغضب"، حيث اشتعلت الأحداث وظهر أن الحراك جدّي وأن المواجهة أمر لا مفرّ منه. لأجل ذلك ظهر مبارك على شاشات التلفزيون يقدّم روايته ويعرض رؤيته للحلّ. فكان الخطاب الأوّل.
"إنني كرئيس للجمهورية وبمقتضى الصلاحيات التي خوّلها لي الدستور، كحكم بين السلطات، أكدت مرارًا وسوف أظل أن السيادة للشعب وسوف أتمسك دائمًا بحقه في ممارسة حرّية التعبير، طالمًا تم في إطار الشرعية واحترام القانون.. وإنني إذ انحاز كل الانحياز لحرّية المواطنين في إبداء آرائهم، أتمسّك بذات القدر بالحفاظ على أمن مصر واستقرارها وبعدم الانجراف بها وبشعبها لمنزلقات خطيرة، تهدّد النظام العام والسلام الاجتماعي.. إنني لا أتحدث إليكم اليوم كرئيس للجمهورية فحسب، وإنما كمصري شاءت الأقدار أن يتحمّل مسؤولية هذا الوطن، وأمضى حياته من أجله حربًا وسلامًا... لقد طلبت من الحكومة التقدّم باستقالتها اليوم وسوف أكلّف الحكومة الجديدة اعتبارًا من الغد، بتكليفات واضحة ومحدّدة للتعامل الحاسم مع أولويات المرحلة الراهنة، وأقول من جديد إنني لن أتهاون في اتخاذ أية قرارات تحفظ لكل مصري ومصرية أمنهم وأمانهم، وسوف أدافع عن أمن مصر واستقرارها وأمان شعبها، فتلك هي المسؤولية والأمانة التي أقسمت يمينًا أمام الله والوطن بالمحافظة عليها". انتهى الخطاب، فهل انتهت الحكاية؟ لا، طبعًا.
في الثامن والعشرين من يناير، أصبح همّ الإعلام الحكومي ومن داخل غرفة الماكياج نفسها، البحث عن الكرافطة "الكحلي" لزوم إكسسوارات الحزن التلفزيوني المصطنع، فالقناة لا تزال تقدّم الأغاني في وقت تحفل فيه تلفزيونات العالم بصور التظاهرات التي تملأ التحرير وميادين أخرى بالمحروسة. يومها بدأ العد العكسي لتوقّف نبضات بث "قلب البلد"، في تواز منطقي مع سقوط سوط السلطة الأكبر، جهاز الشرطة ولواءاته، ضيوف البرنامج المدلّلين وكل أسلحة القوّة الناعمة التي تهاوت مع أوّل امتحان.
بكى المذيعون ولم يتأثّروا، وتباكى الفنانون على البلد التي تحترق وناحت الممثّلات على البيتزا التي لم يعد بالإمكان تناولها ولم يتأثرن، وفشلت مساعي من سمّيوا بالحكماء من الساسة المنتظرين لفرص الظهور بمظهر القادة طمعًا في منصب يقربهم من رأس النظام. فتحت هواتف القنوات الفضائية المصرية على "المواطنين" تنقل تأثّرهم بخطاب الرئيس، ودعوتهم الشباب الطاهر للعدول عن التظاهر خوفًا من انتشار الفوضى التي تسبب فيها فتح السجون وإطلاق يد البلطجية على رقعة البلد، وانسحاب الشرطة من مواقعها، وقطعت شبكات الانترنت، لكن الحشد تواصل وخرج المصريون بأعداد غير مسبوقة مؤكّدين على شعار إسقاط النظام. وكان لا بد من خطاب ثان.
"وبالنظر لهذا الرفض لدعوتي للحوار وهي دعوة لا تزال قائمة، فإنني أتوجّه بحديثي اليوم مباشرة لأبناء الشعب بفلاحيه وعماله، مسلميه وأقباطه، شيوخه وشبابه، ولكل مصري ومصرية في ريف الوطن ومدنه على اتساع أرضه ومحافظاته، إنني لم أكن يومًا طالب سلطة أو جاه، ويعلم الشعب الظروف العصيبة التي تحمّلت فيها المسؤولية وما قدّمته للوطن حربًا وسلامًا، كما أنني رجل من أبناء قواتنا المسلحة وليس من طبعي خيانة الأمانة أو التخلّي عن الواجب والمسؤولية، إن مسؤوليتي الأولى الآن هي استعادة أمن واستقرار الوطن لتحقيق الانتقال السلمي للسلطة في أجواء تحمي مصر والمصريين، وتتيح تسلّم المسؤولية لمن يختاره الشعب في الانتخابات الرئاسية المقبلة.. وأقول بكل الصدق، وبصرف النظر عن الظرف الراهن، إنني لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة، فقد قضيت ما يكفي من العمر في خدمة مصر وشعبها. لكنني الآن حريص كل الحرص على أن أختتم عملي من أجل الوطن بما يضمن تسليم أمانته ورايته ومصر عزيزة آمنة مستقرة، وبما يحفظ الشرعية ويحترم الدستور.. إن حسني مبارك الذي يتحدّث إليكم اليوم، يعتز بما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها. إن هذا الوطن العزيز هو وطني مثلما هو وطن كل مصري ومصرية. فيه عشت وحاربت من أجله ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه وعلى أرضه أموت، وسيحكم التاريخ علي وعلى غيري بما لنا أو علينا". انتهى الخطاب، فهل انتهت الحكاية؟ لا، طبعًا.
انهمرت دموع المذيعين والمذيعات فأبكوا المواطنين الشرفاء الذين أعلنوا أسفهم للريس، وبكوا أوضاع البلد والعباد. لكن رد المعتصمين في التحرير كان رمي الشاشات بالأحذية والإصرار على شعار إسقاط النظام بلا بديل، ولأن النظام اعتقد أن نتيجة التصويت بعد الخطاب العاطفي صارت لصالحه، فقد دعا الجيش المواطنين إلى مغادرة الميادين قبل أن يوعز لداعميه باقتحام ميدان التحرير وتأديب "شوية العيال" العصاة العاقين للأب الرئيس، فكانت موقعة الجمل الشهيرة فضيحة مدوية وصفعة حقيقية للنظام الذي ظهر فاقدًا أعصابه وأسلحته في الوقت نفسه.
تجمُّع لقوات الأمن المركزي عُهِد إلى أفراده التصدّي للمتظاهرين.
المجند 1: احنا لازم نضرب في المليان.
المجند 2: تضرب مين؟ جايز تضرب واحد في الهوجة ده يطلع أخوك ولا ابن عمك ولا قريبك.
المجند 3: طول ما احنا معندناش أوامر يبقى ندافع عن نفسنا وبس.
المجند 1: ده فرصتنا علشان نعمل حاجة تنططنا لفوق.
المجند 2: انتو مزودينها أوي. انتو إيه اللي فاتح شهيتكم ع الأزية كده؟
المجند 3: فاهمين غلط. متصوّرين أن اللي يضرب أكثر يعجب أكثر ويترقى أسرع.
هو مشهد من فيلم (الهجامة - 1992)، للمخرج محمد النجار، يلخص طريقة اشتغال العقل الأمني العربي وما يتمّ تلقينه للمجندين والعساكر والضباط مناهج نظرية أو تطبيقًا على الأرض، سبيلًا أوحدًا للترقّي الوظيفي.
وفي فيلم (البريء - 1986)، لمخرجه عاطف الطيب، يصل المجند أحمد سبع الليل إلى مركز الاعتقال التابع لقوّات الأمن المركزي، حيث تم تجميع عدد من السجناء "المعارضين" للنظام. يفاجأ المجند الشاب، مع أوّل دخول له إلى ساحة المعتقل، بأصناف الإهانة التي يتعرّض لها المعتقلون وهم يجبرون على أكل الرغيف من على الأرض وهم مكتوفو الأيدي.
أحمد سبع الليل: مين دول يا حضرة الصول؟
الصول: دول اللي مكفرينا وسبب العذاب اللي احنا فيه.
أحمد سبع الليل: أيوه، يعني مين هما؟
الصول: دول أعداء الوطن.
أحمد سبع الليل: أعداء الوطن وبتوكلوهم؟ ده اللقمة خسارة في جثتهم. يا نهار إسود.
لم يتغيّر الوضع كثيرًا في الألفية الثانية حيث صفوف من المعتقلين في مواجهة المحققين، في فيلم "الشتا اللي فات":
معتقل 1: لما حسيت بغلطي جيت القسم أسلم نفسي بس ما لقيتش حد، هو انتو صحيح رحتو فين يا باشا؟
معتقل 2: أنا أساسًا كنت رايح أشتري بيتزا... خدوني وقالولي حيسيبوني بعد عشر دقايق ولسه ماسبونيش لغاية دلوقتي. وأنا متأخّر ولازم أمشي علشان البيتزا بردت.
معتقل 3: كل حاجة في البلد ده بقت خايبة. حتى أسئلتك ده خايبة.
يصفعه الضابط ويقول: خايبة ده تبقى أمك.
تلك آداب الضيافة لدى محقّقي أمن الدولة. فضابط أمن الدولة عادل بيه، وزبانيته لم يتركوا من طريقة إذلال إلا استعملوها لدرجة دفع خطيب جامع، لم ترقهم خطبه الداعمة للمقاومة في غزة، إلى التبول في سرواله بعد أن أشبعوه من الضيافة شربًا للمياه بالغصب مع المنع من دخول الحمام.
"مال غزة ومالنا؟ أوعى تكون فاهم إن إسرائيل هي عدوتنا، إحنا عدونا الحقيقي الجهل. وانت لما تكون متسخر من حد متعرفوش ومش دريان تبقى إنت جاهل". هكذا خاطب ضابط أمن الدولة، عمرو وهو يلتقيه معصوب العينين قبل الإفراج عنه، ولخطيب الجامع أصدر الأمر المطاع: "إنس موضوع غزة خالص يا شيخ ميدو".