01 نوفمبر 2024
الشافعي حسن.. المُجمع والمفترى عليه
حين تسمع أن جامعة القهر والقُهرة قد أحالت للتحقيق الدكتور حسن الشافعي والدكتور محمد حماسة، ووقفت صرف مرتبيهما، بزعم الجمع بين وظيفتين بالمخالفة للقانون وبدون إذن، وطالبتهما برد جميع ما تقاضاه كل منهما في تلك الفترة، ضمن بيان أصدره رئيس جامعة المقهورين، وفيه: أن د. حسن محمود الشافعي جمع بين وظيفته بالجامعة أستاذاً بكلية دار العلوم وعمله رئيساً لمجمع اللغة العربية... قد يمرّ عليك هذا القرار والكلام مرور غيره من عمليات تمزيق وتغريق مصر، وتحسبه هيناً، وهو في الحقيقة أمر عظيم.
فالشافعي العبقري المصري الذي ربما لا تعرفه جيداً هو: الفيلسوف، المتكلم، الصوفي، اللغوي، الأزهري الدرعمي معاً، المجدد، المناضل، المبتلى، الصابر، المعلم، المربي، القدوة، الخلوق، المحب المحبوب، صاحب القبول.. إنه أستاذ أساتيذ العصر، وشيخ الأشياخ، في مصر وخارج مصر، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة حالياً، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء الصوفية، ورئيس الجامعة الإسلامية وعميد كلية الشريعة في إسلام أباد سابقاً، ووكيل كلية دار العلوم سابقاً، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، وكبير مستشاري شيخ الأزهر.. العالم العامل الفذ. هو أستاذ شيخ الأزهر والمفتي وأساتذة العلوم الشرعية واللغوية بمصر وخارجها! هل بدأت تشعر بالأمر، وما فيه من خيبة ونكسة؟
يبلغ من العمر 85 عاماً، أطال الله في عمره بالخير، من القلة الجامعة بين منارتي الأزهر ودار العلوم، صنّف في الفلسفة الإسلامية والتوحيد وعلم الكلام والتصوف، وكتب عشرات الأبحاث في المجلات والدوريات العلمية في مصر والخارج، وحقق النصوص التراثية، وتُرجم له إلى الإنجليزية، وأشرف وحكّم عشرات من الرسائل الجامعية في وطنه والعالم... لكن أهم ما يعرفه عنه العارفون أنه: "إمام متحقق"، فضلاً عن كونه "العالم المحقِّق".
و(تحقق الشافعي حسن) وصف عزيز ونادر في زماننا، فحاله محقق لمقاله، وعمله محقق لقوله، ومواقفه محققة لرأيه ورؤيته، وظاهره معبر عن باطنه، ومشوار حياته إنما هو تحقق بالعقيدة والقيم والشرعة والمنهاج والمبادئ التي نشأ عليها وآمن بها. ولذا، هو عند من يعرفونه "الإمام الأكبر" الحقيقي معنى متحققاً، وإن تحلى غيره باللقب شكلاً ملفقاً. وهو المعرفة وهم النكرات، وهو علم الأعلام وهم الأقزام.
لا يمكن لمقال أن يحيط بحقائق هذا الشافعي الإمام المعاصر، وقد وردت منها ورود في كتابه الصادر أخيراً (حياتي في حكاياتي)، والذي تتبين منه كيف لا يرى هذا الصوفي المتحقق نفسه، ولا ينظر في المرآة، بقدر ما ينظر إلى الآخرين ويقدّرهم، وبكل الخير يذكرهم، ويلمح عطاء غيره، وكأنه لا يرى لنفسه فضلاً؛ لا على نفسه ولا على غيره. وهذا أمر يحتاج إلى مقامات ومقالات، لعلنا نوفق إليها يوماً قريباً.
ولكن، محل الكلام هو موقف الانقلابيين الأخير منه؛ ومن ثم موقفه هو من ثورة الشعب وحقوقه وحرياته. وفي هذا يتجلى (تحقق الشيخ حسن الشافعي) زاهياً نضراً، فكل أوصافه السالف ذكرها تبرق وتشرق مع الثورة، وما تلاها من منح ومحن، حين يتحول التحقق والاستقامة مع الله، ومع النفس إلى الشهود والشهادة على الثورة الحقيقية والثورة المضادة (لتكونوا شهداء على الناس)، وحين تتجلى الحكمة في الموازنات التي حاول بها جاهداً حفظ الأزهر ومكانته وصورتها، وحفظ تماسك الوطن والجماعة الوطنية، وحفظ الدماء، وحفظ الحرية والكرامة والعدالة بهذا الوطن العزيز (سددوا وقاربوا، وبشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)،.. كل هذا وهو يسير بين ظهراني من لا يرقبون في هذا الوطن إلا ولا ذمة.
كتب الشيخ شهادته ناصعة عن يناير وما بعدها (شهادة أزهري معاصر على مسار التحول الديمقراطي في مصر)، أسدى فيها إلى الثورة منظومة خطابية وفكرية فريدة، حملت روح الثورة في جسد لغوي متين ومبين. أعاد فيه وصف الاستبداد والطغيان بما هما أهله، وكشف اللثام عن الظلم والظلام والإثم والآلام التي تسببا فيها، وتحدث كما ينبغي أن يكون الأزهري والعالم الصادع بالحق، لا يخاف لومة لائم، كما ألقى الضوء على التحول الديمقراطي الذي أعاقه الكذب والكبر والحقد وأمراض العقول والقلوب. يكتب الشافعي عن يناير شاهداً لا مشاهداً، ومن دون فصل بين الشاهد والمشهود، بحسب عبارته، ويحرص على حفظ مخزون الأمل في أنها ليست إلا "فاتحة" في كتاب فيه "فصول" من نوازع شريرة، لكنها "ختامها" سيكون أصيلاً نبيلاً بإذن الله.
عمل الرجل على حل مشكلة الأزهر مع الثورة، ونزل الميدان يخاطب الثوار باسم الأزهر فأحسن وأحسنوا، وأصبح هو الرائد الهادي للمؤسسة في سبيل التحرر من ربقة الاستبداد والفساد، ثم اختير ممثلاً للأزهر ولهيئة كبار العلماء في لجنة الدستور المصري عام 2012، فاتصل وتواصل، واستمع وأسمع، وبشهادة من كانوا عن يمينه وعن يساره (السلفيين والمسيحيين والإخوان والعلمانيين): لقد علّم وفهّم، وأقنع وألزم، حتى عرف عنه أنه الرجل المجمع والمتفق عليه، وكان نعم الترجمان لوثيقة الأزهر التي أجمع عليها المختلفون، وشهد أن "دستور الثورة" لم يُسلق كما زعموا، وأنه "ليس دستور الإخوان"، وأنهم لم يمثلوا أكثرية في الجمعية، وأن هذا الدستور هو أفضل دساتير مصر "على الإطلاق في شأن الحقوق والحريات، والعدالة الاجتماعية، والأقليات الدينية، والله شاهد على ما أقول" (شهادة أزهري.. 88).
ثم جاء الانقلاب وكان له موقف مخالف لمؤسسة الأزهر، فقد أدان الشيخ الشافعي، بشكل منفرد، مذبحة المنصة التي صدمت الجميع، ثم تلا بنفسه بيان العالم الشاهد المجاهد مديناً مذبحة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، أنهاه بقوله: "اللهم إني أبرأ إليك مما حدث، وأستنكره من كل قلبي، وأسأل الله لبني وطني العقل والحكمة، وأدعوهم إلى التوبة، وكلُّ الحَول والطَّول والقوة بيد الله رب العالمين". ومن هنا، دخل الشافعي في عداد المغضوب عليهم، وبدأت عملية الإزاحة، والتي يراد لها اليوم أن تكون إطاحة. لكن هيهات!
وكان من أعظم مآثره أنه رأس لجنة تطوير التعليم الأزهري، والتي كانت تمضي بخطى وئيدة ومنظمة، برعاية شيخ الأزهر، ثم تدخلت يد العبث المغرضة، لتهدم اللجنة، وتقيم غيرها ليدمر المناهج الأزهرية تدميراً.. (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فدمرناها تدميرا).
إن امتداد يد الانقلابيين الآثمة إلى ذلك المقام العالي بهذه الإساءة المشينة لهم، إنما هو دليل إفلاس وانتكاس، وقرينة على خيبة ثقيلة، وأنهم ينطحون الجبال الشامخة، فينكسرون وتبقى الشوامخ تناطح السحاب.
فالشافعي العبقري المصري الذي ربما لا تعرفه جيداً هو: الفيلسوف، المتكلم، الصوفي، اللغوي، الأزهري الدرعمي معاً، المجدد، المناضل، المبتلى، الصابر، المعلم، المربي، القدوة، الخلوق، المحب المحبوب، صاحب القبول.. إنه أستاذ أساتيذ العصر، وشيخ الأشياخ، في مصر وخارج مصر، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة حالياً، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء الصوفية، ورئيس الجامعة الإسلامية وعميد كلية الشريعة في إسلام أباد سابقاً، ووكيل كلية دار العلوم سابقاً، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، وكبير مستشاري شيخ الأزهر.. العالم العامل الفذ. هو أستاذ شيخ الأزهر والمفتي وأساتذة العلوم الشرعية واللغوية بمصر وخارجها! هل بدأت تشعر بالأمر، وما فيه من خيبة ونكسة؟
يبلغ من العمر 85 عاماً، أطال الله في عمره بالخير، من القلة الجامعة بين منارتي الأزهر ودار العلوم، صنّف في الفلسفة الإسلامية والتوحيد وعلم الكلام والتصوف، وكتب عشرات الأبحاث في المجلات والدوريات العلمية في مصر والخارج، وحقق النصوص التراثية، وتُرجم له إلى الإنجليزية، وأشرف وحكّم عشرات من الرسائل الجامعية في وطنه والعالم... لكن أهم ما يعرفه عنه العارفون أنه: "إمام متحقق"، فضلاً عن كونه "العالم المحقِّق".
و(تحقق الشافعي حسن) وصف عزيز ونادر في زماننا، فحاله محقق لمقاله، وعمله محقق لقوله، ومواقفه محققة لرأيه ورؤيته، وظاهره معبر عن باطنه، ومشوار حياته إنما هو تحقق بالعقيدة والقيم والشرعة والمنهاج والمبادئ التي نشأ عليها وآمن بها. ولذا، هو عند من يعرفونه "الإمام الأكبر" الحقيقي معنى متحققاً، وإن تحلى غيره باللقب شكلاً ملفقاً. وهو المعرفة وهم النكرات، وهو علم الأعلام وهم الأقزام.
لا يمكن لمقال أن يحيط بحقائق هذا الشافعي الإمام المعاصر، وقد وردت منها ورود في كتابه الصادر أخيراً (حياتي في حكاياتي)، والذي تتبين منه كيف لا يرى هذا الصوفي المتحقق نفسه، ولا ينظر في المرآة، بقدر ما ينظر إلى الآخرين ويقدّرهم، وبكل الخير يذكرهم، ويلمح عطاء غيره، وكأنه لا يرى لنفسه فضلاً؛ لا على نفسه ولا على غيره. وهذا أمر يحتاج إلى مقامات ومقالات، لعلنا نوفق إليها يوماً قريباً.
ولكن، محل الكلام هو موقف الانقلابيين الأخير منه؛ ومن ثم موقفه هو من ثورة الشعب وحقوقه وحرياته. وفي هذا يتجلى (تحقق الشيخ حسن الشافعي) زاهياً نضراً، فكل أوصافه السالف ذكرها تبرق وتشرق مع الثورة، وما تلاها من منح ومحن، حين يتحول التحقق والاستقامة مع الله، ومع النفس إلى الشهود والشهادة على الثورة الحقيقية والثورة المضادة (لتكونوا شهداء على الناس)، وحين تتجلى الحكمة في الموازنات التي حاول بها جاهداً حفظ الأزهر ومكانته وصورتها، وحفظ تماسك الوطن والجماعة الوطنية، وحفظ الدماء، وحفظ الحرية والكرامة والعدالة بهذا الوطن العزيز (سددوا وقاربوا، وبشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)،.. كل هذا وهو يسير بين ظهراني من لا يرقبون في هذا الوطن إلا ولا ذمة.
كتب الشيخ شهادته ناصعة عن يناير وما بعدها (شهادة أزهري معاصر على مسار التحول الديمقراطي في مصر)، أسدى فيها إلى الثورة منظومة خطابية وفكرية فريدة، حملت روح الثورة في جسد لغوي متين ومبين. أعاد فيه وصف الاستبداد والطغيان بما هما أهله، وكشف اللثام عن الظلم والظلام والإثم والآلام التي تسببا فيها، وتحدث كما ينبغي أن يكون الأزهري والعالم الصادع بالحق، لا يخاف لومة لائم، كما ألقى الضوء على التحول الديمقراطي الذي أعاقه الكذب والكبر والحقد وأمراض العقول والقلوب. يكتب الشافعي عن يناير شاهداً لا مشاهداً، ومن دون فصل بين الشاهد والمشهود، بحسب عبارته، ويحرص على حفظ مخزون الأمل في أنها ليست إلا "فاتحة" في كتاب فيه "فصول" من نوازع شريرة، لكنها "ختامها" سيكون أصيلاً نبيلاً بإذن الله.
عمل الرجل على حل مشكلة الأزهر مع الثورة، ونزل الميدان يخاطب الثوار باسم الأزهر فأحسن وأحسنوا، وأصبح هو الرائد الهادي للمؤسسة في سبيل التحرر من ربقة الاستبداد والفساد، ثم اختير ممثلاً للأزهر ولهيئة كبار العلماء في لجنة الدستور المصري عام 2012، فاتصل وتواصل، واستمع وأسمع، وبشهادة من كانوا عن يمينه وعن يساره (السلفيين والمسيحيين والإخوان والعلمانيين): لقد علّم وفهّم، وأقنع وألزم، حتى عرف عنه أنه الرجل المجمع والمتفق عليه، وكان نعم الترجمان لوثيقة الأزهر التي أجمع عليها المختلفون، وشهد أن "دستور الثورة" لم يُسلق كما زعموا، وأنه "ليس دستور الإخوان"، وأنهم لم يمثلوا أكثرية في الجمعية، وأن هذا الدستور هو أفضل دساتير مصر "على الإطلاق في شأن الحقوق والحريات، والعدالة الاجتماعية، والأقليات الدينية، والله شاهد على ما أقول" (شهادة أزهري.. 88).
ثم جاء الانقلاب وكان له موقف مخالف لمؤسسة الأزهر، فقد أدان الشيخ الشافعي، بشكل منفرد، مذبحة المنصة التي صدمت الجميع، ثم تلا بنفسه بيان العالم الشاهد المجاهد مديناً مذبحة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، أنهاه بقوله: "اللهم إني أبرأ إليك مما حدث، وأستنكره من كل قلبي، وأسأل الله لبني وطني العقل والحكمة، وأدعوهم إلى التوبة، وكلُّ الحَول والطَّول والقوة بيد الله رب العالمين". ومن هنا، دخل الشافعي في عداد المغضوب عليهم، وبدأت عملية الإزاحة، والتي يراد لها اليوم أن تكون إطاحة. لكن هيهات!
وكان من أعظم مآثره أنه رأس لجنة تطوير التعليم الأزهري، والتي كانت تمضي بخطى وئيدة ومنظمة، برعاية شيخ الأزهر، ثم تدخلت يد العبث المغرضة، لتهدم اللجنة، وتقيم غيرها ليدمر المناهج الأزهرية تدميراً.. (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فدمرناها تدميرا).
إن امتداد يد الانقلابيين الآثمة إلى ذلك المقام العالي بهذه الإساءة المشينة لهم، إنما هو دليل إفلاس وانتكاس، وقرينة على خيبة ثقيلة، وأنهم ينطحون الجبال الشامخة، فينكسرون وتبقى الشوامخ تناطح السحاب.