زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثلاثة بلدان في يوم واحد، إذ وصل، صباح أمس الإثنين، إلى قاعدة حميميم العسكرية في مدينة اللاذقية السورية التي ترابط فيها قواته الجوية، وهناك التقى رئيس النظام السوري بشار الأسد، وبعدها انتقل إلى مصر ليعقد جلسة مباحثات مع نظيره عبد الفتاح السيسي، ويشرف معه على توقيع سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية، أهمّها بناء مفاعل نووي في منطقة الضبعة، وفي ما بعد ظهيرة اليوم نفسه انتقل إلى أنقرة ليقابل نظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي باتت اجتماعاته به تتكرر بوتيرة متسارعة، ويعد هذا الاجتماع الثاني خلال شهر والسابع خلال عام. التقى بوتين مع أردوغان في الثاني والعشرين من الشهر الماضي في منتجع سوتشي، وكان ثالثهما الرئيس الإيراني حسن روحاني، وتصدرت المسألة السورية الموضوعات المطروحة على طاولة البحث. ويسجّل للرئيس الروسي الدور في أنه غيّر في طبيعة العلاقات الإيرانية التركية في أقل من عام، واستطاع أن يجمع هذين الخصمين من حول طاولة في أستانة أولاً، ويبعدهما عن منطق حسابات الربح والخسارة في سورية، ويوحدهما من حول منطق تقاسم الأرباح، ورسم لهما خرائط يتحركان عليها بواسطة البوصلة الروسية التي منعت حتى اليوم حصول احتكاكات بين الطرفين، وباتت مع مرور الوقت ضرورية لكل من طهران وأنقرة من أجل الوصول إلى نهاية النفق السوري الذي صار صعباً على كل منهما الخروج منه بمفرده.
قبل أستانة لم يكن يخطر في بال أحد أن ينجح المايسترو الروسي في إدارة اللاعبين على الساحة السورية، الإيراني والتركي والإسرائيلي والسعودي والأميركي، ولكن حصيلة قرابة العام تشكل مفاجأة للجميع، إذ أنه بات يمسك بكل خيوط اللعبة، وصار يقوم بدور الوسيط أيضاً بين النظام السوري وإيران وإسرائيل، ويحدد القواعد والحدود بين جميع الأطراف، ويعطي الضمانات لأمن ومصالح هذا الطرف أو ذاك، على نحو يرضي الجميع، وهذا دور لا يمكن أن يقوم به إلا صاحب البيت.
بات واضحاً للجميع أنه ليس في وسع أحد أن يؤلف بين كل هذه المصالح ويرعاها اليوم سوى روسيا، بعد أن رفعت الولايات المتحدة يدها نهائياً عن الشأن السوري منذ أغسطس/آب 2013، حين ارتكب النظام مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، وتدخلت روسيا حينذاك من أجل إنقاذه من ضربة عسكرية أميركية أوروبية، بل جنبته حتى المحكمة الدولية.
يلعب الروس بذكاء في المنطقة، واستطاعوا توظيف التناقضات لصالحهم في ما يخص سورية، كما استثمروا الحرب على الإرهاب من أجل بسط نفوذهم العسكري، واستخدموا الورقة الكردية بطريقة براغماتية جداً. يعمل بوتين على بناء شرق أوسط جديد، يدير فيه مصالح الأطراف من إسرائيل إلى طهران، ومن أنقرة إلى دمشق، ومن طهران إلى الرياض. يبيع الروس كل شيء ويشترون كل شيء، ويشتغلون بطريقة مختلفة عن تلك التي عملت بها الولايات المتحدة في المنطقة، فليس لديهم أي مشكلة في بناء علاقات صداقة حميمة بين الأعداء، طالما أنّهم يستطيعون التحكم بمفاتيح التوترات.
لا يوجد ملف في المنطقة اليوم من دون أن يكون للروس دور أساسي فيه من السلاح إلى الإرهاب والنفط، وليس في وسع أي طرف إقليمي في الشرق الأوسط أن يتصرف اليوم بمعزل عن موافقة موسكو ورضاها.
وسط هذا الجو يستمر دور الولايات المتحدة في التراجع، وفي حين أسس الرئيس السابق باراك أوباما لسياسة النأي بالنفس، بدا أن آخر هموم الرئيس دونالد ترامب منافسة روسيا، وهو لا يزال يعمل وفق آليات عتيقة، لا يمكن لها أن توصل واشنطن إلى موطئ قدم أمام الدينامية التي تتحلى بها موسكو، وهذا كان واضحاً في رحلة بوتين الذي أفطر، أمس، في اللاذقية وتناول طعام الغداء في القاهرة، وحل في العشاء ضيفاً على مائدة أردوغان في أنقرة، ونام في سوتشي.