قد ننساق في بعض الأحيان خلف التداعيات والأخبار اليومية الفلسطينية بصورة مبالغ فيها، ما يؤدي إلى تناسي الكثير من الحقائق التي تصوغ مجتمعة جوهر المعضلة الكامن خلف كل المآسي والجرائم الحاصلة، ومنها طبيعة الحركة أو الكيان الصهيوني. ما يجعل من الضروري اليوم استذكار مركزية الحرب والرموز الدينية في صوغ العقد الصهيوني اجتماعياً، وفي الحفاظ على تماسك إسرائيل كعصابة إجرامية معتدية على حقوقنا التاريخية. فمن الواضح من العديد من المظاهر الاحتجاجية والاجتماعية التاريخية هشاشة تماسك الكتلة الاجتماعية المستوطنة داخل الأراضي العربية المحتلة منذ ما قبل النكبة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر تظاهرات الإثيوبيين اليهود داخل كبرى المدن الفلسطينية المحتلة، وما رافقها من هتافات تنخر ببنية ما يدعى إعلامياً بالمجتمع الإسرائيلي.
هذا المجتمع المركّب بصورة قسرية، وفق غايات ومصالح مصطنعة تخدم زرع إسرائيل في المنطقة على قاعدة إدامة تفجير الصراعات والحروب مع الآخر العربي أو غير اليهودي، والعكس صحيح أيضاً، بمعنى أن تصوير إسرائيل المحاصرة في محيط ينبذها ويعاديها ويسعى إلى فنائها دولة ومجتمعاً، يقلص أو يؤخر ويحجب حدة وتواتر تناقضاتها الاجتماعية، فارضاً على "مواطنيها" ضرورة التماسك والحذر والاستعداد والتربص بهذا العدوّ التاريخي والأزلي. وهو ما يفسر هلع قادة الاحتلال من السلام والاستقرار والتعايش الأهلي والدولة العلمانية، فمن دون الحرب ووقودها من الرموز والمظلومية الدينية، يفقد هذا المجتمع المصطنع أدنى مقومات تماسكه، ما يهدد بتصادمه وتفككه وربما فنائه كوحدة اجتماعية مصطنعة، ويدفع "المواطنين" لاستعادة هوياتهم وانتماءاتهم الحقيقية الأصلية بعيداً عن الأوهام الصهيونية.
الأمر الذي قد يوحي للبعض بحتمية فناء دولة الاحتلال تلقائياً في المستقبل القريب أو البعيد، وخصوصاً في المرحلة التي يسود فيها السلم والاستقرار ويخيم على العلاقات بينها وبين دول المنطقة؛ ما يذكرني ببعض مروّجي أوسلو والخيار التفاوضي عموماً؛ وهو اجتزاء يحرّف الحقائق ويفقدها جوهرها الأهمّ الذي يعبّر عن حقيقة التوجهات الصهيونية، ويشرح آلياتها لذلك. فمن السذاجة الاعتقاد بأن الصهيونية تسعى أو سوف تسعى من أجل إحلال السلام والاستقرار في علاقة دولتها ومجتمعها المصطنع مع محيطه العربي عموماً، لأنها تدرك إشكاليتها الوجودية تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً، وهو ما يتجلى ميدانياً في سياسات صدامية دموية، ومن خلال تصاعد الخطاب الديني العنصري بصورة متكررة ومتواصلة. حتى بات الجميع يدرك اليوم انتهاء حل الدولتين ويعلم من المسؤول عن قتله.
إذ يقوم الكيان الصهيوني، أو وليدته دولة الاحتلال الإسرائيلي، على فناء الآخر وتطهيره عرقياً وصولاً إلى شطبه كلياً، بالتوازي مع هلع وذعر من نتائج فنائه العكسية على تماسك بل وجود هذا الكيان المصطنع. لذا غالباً ما يقدم الاحتلال على شن حروب غير مكتملة حتى لو امتلك القدرة على الحسم الكامل، فكلما طال الصراع الديني وفق مخططها ورؤيتها واستمرت جولاته، مدّت الصهيونية بعمر مجتمعها ودولتها المصطنعة. وهو ما يفسر علاقة "إسرائيل" النفعية مع بعض القوى التي تعاديها جهاراً ونهاراً كحماس؛ ونظام الممانعة الأسدي؛ وحزب الله والنظام الإيراني الطائفيين، ضمن حدود مسيطر عليها، تكفل استمرار الحرب بذرائع دينية ونتائجها النهائية والمرحلية.
لذا يستحيل أن يحلّ السلام بين دول المنطقة دون القضاء الكامل على الصهيونية ومنجزها الأهم الاحتلال، مهما بالغ البعض في استسلامه لمخططاتها، ولنا بزيارة شارون الاستفزازية والمتعمدة للأقصى مثال، إذ تمت في مرحلة كان التفاوض والحوار السمة الأبرز فيها، بالإضافة إلى محاصرة أبو عمار وربما اغتياله، والتضييق الراهن على أبو مازن، كل تلك الأمثلة توضح هلع الاحتلال من السلم حتى لو كان استسلاماً كاملاً ودون أي التزامات. كما يصعب هزيمة هذا الكيان المدعوم على المستوى الدولي وبأقصى درجات الدعم المادي والعسكري واللوجستي، دون هدم الأوهام والخرافات الدينية والأكاذيب التي أسر فيها جزءاً كبيراً منا كما أسر أتباعه من قبل.