يفرّق صناع الصورة بين مشاهدة فيلم سينمائي، ومشاهدة حدث يقع توّاً. فالصورة، في الحالة الأولى، هي عمل فني من صنع الإنسان، وهي موجودة بالقوة، لكنها تحمل رسالة الفنان بالضرورة.
لكن، في الحالة الثانية، هي صورة موجودةٌ بالفعل، كأن تكون صورة لمباراة كُرة قدم تُلعب الآن بكل أحداثها وتفاصيلها، وهي أكثر إثارة وتفاعلية. بهذا المفهوم، لا تكون البطولة للصورة بحد ذاتها، بل للوسيط التكنولوجي الذي ينقلها. هكذا، يمكن لتكنولوجيا الصورة أن تنسخ الواقع، لا تصفه أو ترمز إليه على نحو كانت الكتابة تجعلنا نعيش في عالم من الرموز. في حالة الكتابة، يفقد الواقع مركزيته، بل ويفقد دوره كمرجعية لتصوراتنا عن العالم الذي نحياه.
ويعني هذا أن دور الإنسان، كوسيط معرفي حي وفاعل، سيضمحل، كما يؤكد سيد الوكيل في كتابه "عملية تذويب العالم". ولهذا، فإن العلاقة بين المادة المنقولة والمُشاهد ستكون مباشرة بما يعطي فرصاً شديدة التفاعلية، ويرى أن الأمر أكثر تعقيداً مع الهواتف المحمولة، التي لم تعد مجرد وسيط ينقل إلينا العالم فحسب، كما يفعل التلفزيون، بل يمنحنا القدرة على نقل صورتنا وصوتنا للآخرين في أي مكان، بمعنى أن تكون هنا وهناك في اللحظة نفسها.
يعتقد بعضهم أن الصورة والتكنولوجيا ستفتحان طاقات من التخييل لم تكن منظورة. كانت معطّلة لأن قدرات الإنسان المحدودة في حيزي الزمان والمكان. إلا أنها الآن طاقة كبيرة، تقوم أساساً على اللعب بمعطيات التكنولوجيا وإمكاناتها. سيصبح اللعب الحر قيمة جديدة لا تقل عن قيمة الفن. مثلاً، كثير من الفنون الجديدة باتت تعتمد على مهارات الاستخدام التكنولوجي والمعلوماتية أكثر من الابتكار والمعرفة، بما يعني تغير مفهوم الفن نفسه.
هكذا، ستكون لدينا فنون جديدة أكثر قدرة على محاكاة الواقع وأكثر قدرة ـ في الوقت نفسه ـ على مخالفته، والتفوق عليه؛ لأنه ـ ببساطة ـ سيكون لدينا واقع فائق القدرة.
ربّما عرفت الكتابة الأدبية تطوّراً مشابهاً؛ إذ تتغير طبيعة النص الأدبي ولغته وقيمته الجمالية ومقاصده الموضوعية على المدونات الإلكترونية من خلال تخليه عن قيمته الفردية شيئاً فشيئاً، ليصبح أكثر اشتباكاً وتعددية وتناصاً مع نصوص أخرى، في ما يعرف بالنص التفاعلي.
في سياقٍ آخر، لم يعد مجال فن الإعلان - وهو فن الصورة بامتياز - ينتمي إلى سرديات الماضي؛ لذلك هو أكثر تأثيراً في تفعيل آليات الاستهلاك. إن المُشاهد للدراما التلفزيونية بوصفها فناً يتأسس على النص المكتوب، يمكن أن يلاحظ تراجعها أمام فن جديد مثل فن الإعلان، للدرجة التي تقوم فيه الدراما بدور وظيفي في خدمة الإعلان على نحو ما يعرف بـ "مسلسلات الصابون".
لن يتوقّف الأمر عند حدود التغيير في طبيعة الفنون القديمة. فليس بوسعنا التكهّن بما سيحدث غداً. إن برنامجاً جديداً من برامج التكنولوجيا قد يغير الكثير، وقد يخلق واقعاً جديداً. وربما يخلق فنوناً جديدة لم تكن معروفة، كفنون العرض والتحكم والتحريك عن بعد والتصوير ثلاثي الأبعاد الذي يمنحنا محاكاة أدق للواقع، وباتت تُستخدم في برامج التدريب وتنمية المهارات الإنسانية كقيادة الطائرات وفنون القتال الحربية وضبط برامج استكشاف الفضاء والجراحات الطبية الدقيقة.
في هذا السياق، يُدخل التصوير ثلاثي الأبعاد الصورة في مجالات جديدة تماماً، من خلال الطابعات ثلاثية الأبعاد (3D Printers) المخصصة لتصميم الماكيتات التطبيقية، لتدخل في مجال الصناعات الهندسية، مثل صناعة السيارات والطائرات والسفن العملاقة، لتتجاوز الصورة دورها الجمالي (أو الوظيفي) بوصفها فناً، إلى أدوار أخرى عملية واقتصادية.
هنا، وانطلاقاً من التحوّلات التي طرأت على الصورة واستخدامها، نجد أنه سيكون بإمكانها إذابة المسافة، أو تقليصها، بين الفن والعلم، أو بين الفن والسلعة والقيم الجمالية والاقتصادية، حتى يمكن القول إن الفن نفسه أصبح علماً واقتصاداً.
يؤكد الوكيل أن المعاني البلاغية، في حرب الصور، تصل على نحو شعوري ومؤثر وأكثر عمقاً مما فعلته قصيدة أبي تمام في فتح عمورية.
(المغرب)