الصين... طريق الحرير في التكامل مع أوروبا
شهد عام 2012 انعقاد المنتدى الاقتصادي الأول في وارسو، بين القادة الصينيين وحكام دول أوروبا الشرقية والوسطى، تبعه المنتدى الثاني في بوخارست في 2013، واستضافت بلغراد قبل نهاية الجزء الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2014 أعمال المنتدى الثالث، وحضر رئيس الوزراء الصيني، لي تشانغ، فعالياته بحضور قادة 17 دولة من أوروبا الشرقية والوسطى، للاستفادة من الأموال الصينية المطروحة للاستثمار في هذا الجزء من العالم، بقيمة استثمارية مبدئية تبلغ عشرة مليارات دولار.
ويعتبر اللقاء السنوي بمثابة محرّك عملاق لتقديم المبادرات الاقتصادية في المجالات والقطاعات الحيوية كافة، لرفع مستوى التعاون الاقتصادي مع أوروبا، وعلى أرفع المستويات، وتقدّمت هذه الدول، منذ انعقاد المنتدى الأول بخمسين مبادرة في قطاع المال والتجارة والاتصالات والطاقة البديلة الخضراء وبورصات اللحوم، آذنة باجتذاب رؤوس الأموال الصينية الواعدة لرفع مستوى الحياة، وتنمية البنى التحتية في شرق أوروبا ووسطها.
وسيتمّ استثمار مشاريع محدّدة، كمشروع بناء محطة توليد الطاقة "ستاناري" في البوسنة والهرسك، وبناء جسر "ميخايلو بوبين" في بلغراد، وتعبيد الشارع السريع "بار – بولياري" في جمهورية الجبل الأسود، وخطّ سكّة الحديد بين بودابست وبلغراد. وستؤدّي هذه المشاريع، بالطبع، إلى رفع مستوى التبادل التجاري والتعاون المشترك مع الصين التي تتوقع رفع معدّلات التبادل التجاري إلى قرابة 60 مليار دولار أميركي خلال العام الحالي 2014، وهو رقم قياسي للطرفين. وأضاف رئيس الوزراء الصيني، لي تشانغ، في حوار أجرته معه صحيفة ستاندارت البلغارية في 17 أكتوبر/تشرين الأول، أنّ ما يزيد على ألف شركة من أوروبا الشرقية والوسطى تعمل حاليًا في الصين.
استبقت الأجهزة الأمنية بدء أعمال المنتدى، وقامت بعمليات اعتقال جماعية للتنظيمات المدنية التي كانت تستعدّ للتظاهر في العاصمة الصربية بلغراد، تعبيرًا عن رفضها عدم احترام الصين مبادئ حقوق الإنسان، وتمكنت أجهزة الأمن الصينية من تنظيف شوارع بلغراد على عجل، لأنّ المال والاقتصاد على ما يبدو يمتلك الأولوية بالنسبة لدول البلقان التي تعاني من مشكلات أصولية في بناها التحتية، وتحتاج، بصورة عاجلة، استثمارات ضخمة عابرة للقارات، لكي تتمكن من إعادة بنائها وتسريع عمليات النمو الاقتصادي في هذه الدول.
وتعوّل الصين كثيرًا على التمكّن من النفاذ إلى الأسواق الأوروبية من البوابة الشرقية، ومن خلال تأسيس شركات مشتركة في هذه الدول للصناعات المشتركة، وفقًا للمعايير الأوروبية، ولتجاوز المصاعب الجمركية التي تزيد من كلفة السلع المنتجة.
تسعى الصين من هذه المشاريع إلى اعتماد برنامج وخطّة متكاملة للتواصل المباشر والسريع مع دول أوروبا الشرقية، جوًّا وبحرًا "ميناء بيرايوس اليوناني" وبرًا "سكّة الحديد بين بلغراد - بودابست"، لكي تتجاوز مصاعب نقل السلع والبضائع وخفض كلفتها قدر الإمكان واختصار الوقت أيضًا.
وأوضح رئيس الوزراء الصيني أنّ دول أوروبا الشرقية والوسطى تمتلك قاعدة صناعية متطورة، وتكنولوجيا رفيعة المستوى، والكثير من الخبراء والعقول ومخزونا بشريا كبيرا، ولكن، ينقصها التمويل المالي العاجل، لتحسين أدائها وتطوير بناها التحتية، وكذا الصين التي تمتلك نظامًا صناعيًا مستقرًّا واحتياطيًا كبيرًا من المال، يمكنها من الاستجابة لمتطلبات قطاع العمل في دول أوروبا الشرقية والوسطى، لاستثمار هذه المقدّرات.
تأتي خطط التكامل الاقتصادي في توجّهات الصين نحو العالم الغربي، في وقت تنفتح فيه دول أوروبا الشرقية والوسطى على الشرق، وتتوقّع الصين جدوى اقتصادية كبيرة للغاية، خصوصاً وقد حققت مجموعة هذه الدول والصين الشعبية تقدّمًا ملحوظًا في مجال التبادل التجاري وتقنيات الاتصال والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا والطاقة.
الأولويات الاقتصادية للصين
ارتفعت معدّلات الصادرات الأوروبية إلى الصين، مقارنة بما تستورده هذه الدول من المنتجات الصينية بنسبة 5% خلال العام الحالي 2014، الصين لا ترغب بتكديس البضائع وإنتاج فائض عن حاجتها، لكنّ أسواقها منفتحة بالكامل، ومنتعشة مع ارتفاع نسبة السكان وازدياد الحاجة على المواد الاستهلاكية، وتمارس الحكومة الصينية الرقابة لتحقيق التوازن التجاري برفع مستوى التنسيق مع أوروبا.
ونظمت الصين، خلال العام الماضي، معارض ومهرجانات تجارية عديدة، شاركت بها دول أوروبا الشرقية والوسطى، وتمكنت الصين من تصدير كثير من منتجاتها النوعية، كما تحسّنت آليات رقابة نوعية المنتجات الصادرة والمستوردة من دول أوروبا الشرقية والوسطى وإليها. وتمكنت الحكومة الصينية من المصادقة على اتفاقيات عديدة مع الحكومة الهنغارية ولاتفيا في بلغراد في أثناء المنتدى الاقتصادي، أخيراً.
في المقابل، ستبدأ الشركات الصينية الرائدة باستثمار أموالها في دول أوروبا الشرقية والوسطى، وتأمل الحكومة الصينية أن تحصل شركاتها على التسهيلات الإدارية، وتسهيل إصدار تصاريح العمل وتأشيرات الدخول.
التعاون في الزراعة وتربية الحيوانات اللاحمة
تمتلك دول أوروبا الشرقية والوسطى إمكانات كبيرة للاستثمار في مجال زراعة القمح والذرة وتربية الحيوانات اللاحمة والدجاج، والاستثمار كذلك في مجال إنتاج العسل والمياه المعدنية، بكلفة متدنية للغاية، خصوصاً أن اليد العاملة ما تزال رخيصة، مقارنة بدول أوروبا الغربية، وتدرك الصين هذه الأولويات، وقد بدأت عمليًا بشراء الأراضي، والحصول على امتيازات لاستصلاح الأراضي الزراعية عقوداً من الزمن، لكي تشرف على زراعة هذه المساحات الشاسعة، لتصدير المحاصيل المنتجة إلى الصين، حيث يزداد الطلب على الغذاء، وتسويق جزء من هذا المنتج في الأسواق المحلية والأوروبية، وتدرك الصين كذلك أنّ أمن الغذاء أمرٌ في منتهى الأهمية على الصعيد العالمي في القرن الواحد والعشرين.
تسعى الصين، جاهدة، إلى إحياء مبادرتها الأصولية "الحزام الاقتصادي: طريق الحرير". وترحّب بالتكامل الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي، لكي تتمكن، باعتبارها أكبر قوّة اقتصادية نامية في العالم، من التعاون مع أوروبا قوية متطورة، تجدر الإشارة إلى أنّ جزءًا كبيرًا من المحافظات الصينية والمقاطعات ذات الحكم الذاتي شاركت في المنتديات الاقتصادية، في السنوات الثلاث الماضية، وصادقت على اتفاقيات بقيمة ملياري دولار حتى اللحظة. ويعتبر مشروع جسر "ميخايلو بوبين" فوق نهر الدانوب في بلغراد أوّل مشروع كبير، تموّله شركة صينية في القارة الأوروبية. كما سيؤثّر إيجابيًا بناء سكّة الحديد بين بلغراد وبودابست وكذلك ميناء بيرايوس اليوناني على تحسين حياة نحو 32 مليون مواطن أوروبي على مساحة تقدّر بنحو 340 ألف كيلومتر مربّع. وأضاف رئيس الوزراء الصيني إن خطوط النقل هذه قادرة على تحسين عمليات النقل اللوجستية إلى الدول التي ستمرّ بها، وهذه إحدى أولويات الحكومة الصينية في الوقت الراهن.
"الحزام الاقتصادي، طريق الحرير" وربط الصين بأوروبا الشرقية والوسطى عبر البحر والبر والجو سيساعد على تحقيق الأمن والسلام، لأنّ دول أوروبا الشرقية والوسطى تحظى بأهمية جغرافية لإطلالها على القارة الآسيوية، ويمكنها أن تلعب دورًا مهماً لتصبح جسرًا ما بين أوروبا وآسيا. والصين على استعداد للتعاون مع دول أوروبا الشرقية والوسطى في مجال التخطيط الواسع، لتحسين قطاع النقل في مؤسسات سكك الحديد بين الصين والإقليم، وتسريع بناء رواق نقل برّي وبحري، يربط الصين بأوروبا، وتحسين همزات الوصل بين دول هذا الإقليم، بما يضمن كفاءة المواصلات والنقل الآسيوي – الأوروبي.
وأوضح الزعيم الصيني أنّ أكبر التحديات التي قد تواجه هذه المبادرات رغبة دول الإقليم في بناء وتحسين البنى التحتية لديها، في أسرع وقت ممكن، وخصوصاً الموانئ وسكك الحديد والجسور والطرق السريعة والأنفاق ومحطات توليد الطاقة الكهربائية. لكن، قد لا تتمكن الاستثمارات الصينية من الاستجابة لهذه التوقعات بالسرعة المتوقعة. وترغب دول هذا الإقليم باجتذاب أكبر قدر ممكن من الاستثمارات ورفع معدّلات صادراتها إلى الصين، وهو أمر ممكن، لأنّ الصين دولة شاسعة المساحة، حتّى أنّ الفصول مختلفة بين أنحاء الصين. لكن، لكلّ منطقة وإقليم خصوصية ومتطلبات ومعايير مختلفة بشأن السلع والخدمات المطلوبة، ويجب أخذ ذلك بالاعتبار لكلّ من يرغب في التعامل والاستثمار في الأسواق الصينية. ويمكن أن يفقد اندفاع دول أوروبا الشرقية والوسطى لنيل السبق باقتحام الأسواق الصينية جدواه الاقتصادية المرجوة، إذا لم يتمّ التنسيق فيما بينها. الصين ترغب بالاستفادة من تموضع الدول السبع عشرة في هذا الإقليم، والتعاون معها ضمن خطّة متكاملة، ولا ترغب بتطوير العلاقات بصورة انفرادية مع كلّ دولة على حدة.
وقد أثمرت هذه الفكرة في مجال التعاون في قطاع السياحة والزراعة وتأسيس المعاهد التعليمية المشتركة، ومن المتوقع تشكيل مؤسسات مشتركة في الدورة المقبلة في مجال الطاقة والبنية التحتية ومراكز الأبحاث.
وقد شارك في أعمال المنتدى الثالث في بلغراد زعماء الصين، رومانيا، بلغاريا، بولندا، هنغاريا، سلوفاكيا، التشيك، سلوفينيا، صربيا، جمهورية الجبل الأسود، كرواتيا، البوسنة والهرسك، أستونيا، ألبانيا، ولاتفيا، ومقدونيا. وشارك كذلك رؤساء الشركات الخاصة في قطاع العمل في المجالات الحيوية في إقليم أوروبا الشرقية والوسطى.