العراقيون المسيحيون.. جرائم داعش و10 أعوام من التهجير
هكذا، قبل أيام، استيقظ مسيحيو الموصل على كابوس هذا الحرف المكتوب باللون الأحمر،
والمدوّن على أبواب منازلهم وواجهاتها، ما أخافهم من إبادة جماعية، ترتكبها عصابات داعش المسلحة التي أصبحت، بين عشية وضحاها، واقعاً ملموساً بعد إلقاء خليفتها البغدادي خطابه "البليغ" في جامع الموصل الكبير. بدأ المسيحيون يلملمون حاجياتهم وأغراضهم، ما خفّ حمله وزاد ثمنه، وراح 25 ألف مسيحي يشدون الرحال من ثاني أكبر المدن العراقية، التي تضم نحو 30 كنيسة، يعود تاريخ بعضها إلى نحو 1500 عام، بعدما وزّع تنظيم "الدولة الإسلامية" بياناً يطالبهم بتركها. وتأكيداً لذلك، وضع حرف (ن). وقبيل موجة النزوح هذه، شهدت القرى المجاورة حالات نزوح كبيرة، خوفاً من دخول المسلحين المتطرفين إليها، بعدما اجتاحت قوات المالكي، التي لم تجد في جعبتها سوى ارتداء دشاديش الليل، والهروب مثل الثعالب، وترك المسيحيين الذين كانت تدّعي حراستهم فريسةً سهلة لرافعي شعارات "الخلافة الإسلامية" الجديدة.
تستهدف هذه الحملة طرد المسيحيين العراقيين الذين أقاموا في هدوء وسلام في أديرة سهل نينوى، يزرعون الأرض، ويصنعون النبيذ المحلي من الكروم التي يتناوب على عصرها الأبناء والأحفاد منذ سنوات. ولم يكن بعض المسلمين يقبلون على شراء قنانيه منهم، بل تُهدى إليهم لتقوية الأواصر العاطفية، فتجد عناقيد العنب مَن يلتفّ حولها بعاطفة عراقية صادقة. وفي العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في هذه المنطقة، زيجات كانت تُتوّج في احتفالات أسطورية، بأزياء ملونة ومزركشة في سهول الموصل، أو على تلالها وجبالها أحياناً.
مَن كان يتصوّر أن يختلّ هذا الميزان الرائق والبديع الذي كانت بلاد الرافدين تفاخر به قبل عقود؟ وربما هذا ما دفع بطريرك الكلدان في العراق والعالم، لويس ساكو، إلى أن يدق ناقوس الخطر بأن التاريخ يشهد، لأول مرة، إجلاء الموصل، مهد المسيحيين، من السكان الأصليين، مؤكداً أن التطرف الديني يهدد بقاء المسيحيين في بلاد ما بين النهرين، فيما يسعى داعش وأشباهه من المتطرفين إلى الربط بين هذه الطوائف المسيحية المسالمة و"الصليبيين" الغربيين، لإشعال الفتنة الطائفية البغيضة والمقيتة، والمدمرة للعراق.
فسيفساء تحافظ على روحها
يتركز معظم المسيحيين العراقيين في بغداد، وفي المدن الشمالية، مثل كركوك وأربيل والموصل التي كانت يوماً مراكز تجارية مهمة. وقد ورد ذكر الموصل في الكتاب المقدس باسم نينوى، ومعظم قاطنيها من الكلدانيين الذين يتبعون الكنيسة الكاثوليكية الشرقية، المستقلة عن روما، مع كونهم يعترفون بسلطة البابا الروحية. وعلى الرغم من ذلك، ظل الفاتيكان يبعث رسله إلى بلاد الرافدين، من أجل أن يغيّر هؤلاء المسيحيون مذهبهم، لكنهم ظلوا صامدين. الكلدانيون قدماء، قدم الأرض والنباتات، ما زالوا يتحدثون لغة المسيح، الآرامية، أما الآشوريون، فيتحدّرون من أبناء الإمبراطورية الآشورية والبابلية، الذين تبعثروا في أنحاء الشرق الأوسط، بعد انهيار إمبراطوريتهم في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد. ومنهم مَن ينتمي إلى الكنيستين السريانية الأرثوذكسية والكلدانية، بالإضافة إلى طوائف بروتستانتية متعددة.
وعقب استقلال العراق في عام 1932، ارتكب العسكريون مجازر بحق الآشوريين، انتقاماً لتعاونهم مع الاستعمار البريطاني، ودمرت قراهم وكنائسهم. وهناك أرمن كاثوليك، نزحوا من تركيا هرباً من مجازر العثمانيين. وهناك، أيضاً، الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والإنجليكانيون والإنجيليون. ولا توجد هذه الفسيفساء إلا في العراق، وكانت إلى وقت قريب تتعايش في ما بينها. ونجح الفاتيكان، بعد مؤامرات عديدة، في تنصيب البطريرك، عمانوئيل دلي الثالث، أول كاردينال لكنيسة الكلدان الكاثوليك التي تضم كلدان العراق والخارج في 2007، وقد دعا إلى نبذ الطائفية والعصبية، مركّزاً على حياة التسامح بين المسيحيين والمسلمين والعرب والأكراد والتركمان واليزيديين والصابئة.
كنيسة مريم العذراء الكلدانية الموصل (سيدة القلب المقدس/20 يوليو/فرانس.برس/getty) |
التاريخ يعيد نفسه
ولو عدنا إلى التاريخ الحديث، لوجدنا المأساة نفسها يعيد داعش ارتكابها، إذ لجأت العوائل الآشورية العراقية إلى لبنان بعد مجازر عثمانية في بداية نشوب الحرب العالمية الأولى. ووصل تعلّقهم بمذهبهم إلى درجة أنهم علّقوا في "حيّ الآشوريين في زحلة"، لوحة كبيرة للملك آشور بانيبال يصارع أسوداً في رحلة صيد، ونقشوا عليها أحد أهم رموزهم: "الثور المجنّح"، لكنهم لم يجدوا الاحتضان الذي كانوا يتوقعونه في مجتمع مسيحي متعدد المذاهب، مثل لبنان، بل جوبهوا بالرفض على أنهم "نساطرة"، نسبة إلى البطريرك نسطوريوس الذي حكم عليه مجمع أفسس بالهرطقة، وعوقب بالحرم الكنسي، فتم رفضهم في الكنائس. لذلك، اضطروا لإقامة شعائرهم الدينية في منزل كاهنهم، وعاشوا في لبنان من دون هوية.
كما أن ما يجري للمسيحيين العراقيين يعيدنا إلى المصلح المسيحي، كاستيليو، الذي وقف في وجه طغيان مبشر الدكتاتورية في المسيحية، كالفن، حيث كتب في كتابه: "فن الشك" في 1562: "لن يكون في وسع التاريخ أن يدرك أننا سوف نضطر إلى العيش مجدداً في هذه الظلمات، بعدما كانت الأنوار قد سطعت ذات مرة". وشواهد التاريخ تثبت ذلك. ما حدث ويحدث، في هذه الأيام، للمسيحيين في العراق من تقتيل وتهجير واغتصاب، لا سابقة له في التاريخ، منذ نحو ألفي سنة، أي منذ أرسل يسوع الرسولَين، من بين تلاميذه الـ72، مار أدّي ومار ماري، إلى بلاد الرافدين، لنشر المسيحية، وتمكنا من تأسيس كنيسة المشرق.
اعتداءات على 61 كنيسة
الصورة قاتمة، وضبابية في جغرافيا سياسية معقدة، في وقت لا تزال فيه مجزرة كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك في بغداد، والتي نُسبت لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين في 2010، طرية في أذهان العراقيين، عندما اختلطت موسيقى مراسيم القداس بأزيز
الرصاص، وتناثرت مع نيران رصاصهم ودخان قنابلهم أيقونات الصليب، والتماثيل الصغيرة للسيدة العذراء التي كان المصلون يتبركون بها، قبل دقائق من الاعتداء الغاشم، وتلطخت دماء أكثر من 52 من ضحايا التفجير بالدخان والإسمنت والبارود والأنقاض. وسارع المسيحيون من كل حدب وصوب، ووقفوا طوابير طويلة أمام السفارات، للحصول على تأشيرات بلدان الحلم والوهم.
تكتمت الحكومة العراقية على ذلك التفجير، وانتشرت أسرار عنه، لكن الجريمة ظلت غامضة، وذهبت أدراج الرياح. واكتفى المسيحيون، ممّن بقوا أحياء، بنشر صور أقربائهم من الضحايا على "فيسبوك"، ووجد آخرون فيها مادة لإنجاز موسوعة كبيرة، تضم سير الضحايا المحترقين، تم الاحتفاء بصدورها في الكنيسة نفسها تحت أنغام القداس الدامي. ولم تجف ذكرى ذلك التفجير المؤلم، حتى جاء تفجير كنيسة مار أفرام ودير للراهبات في منطقة وادي العين، في حي الموصل الجديدة، إيذاناً باستمرار عمليات إجبار المتبقين على الرحيل.
وفي عشر سنوات مضت، هوجمت 61 كنيسة في العراق، وقتل نحو ألف مسيحي حسب مصادر مسيحية. كان عدد المسيحيين يزيد على مليون، منهم أكثر من 600 ألف في بغداد، و60 ألفا في الموصل، وعدد آخر موزع بين كركوك والبصرة قبل الاحتلال الأميركي في 2003. ولم يتبق منهم، حالياً، سوى 400 ألف، يبحثون عن ملاذ آمن هنا وهناك، ولو في جزر "الواق واق". ولم يخطئ بطريرك الكلدان، لويس ساكو، في قوله "إن الموصل تُفرغ من المسيحيين، لأول مرة في تاريخ العراق".
وبدأ مسيحيو الموصل ينزحون إلى أربيل ودهوك الكرديتين، من دون أن يجدوا الأبواب مفتوحة على الدوام، لأن علاقة المسيحيين معقدة مع الأكراد، ولها تاريخ من الضغائن والمؤامرات والصراع. وعلى الرغم من ذلك، تُدافع قوات البيشمركة عنهم وتحميهم. لكن بعض المسيحيين لا يريدون تحويل آشورستان إلى كردستان، وهم يتشبثون بأن أرض الأكراد مسيحية، باعتبار أن الأكراد قبائل غجرية، جاءت من أفغانستان، وسمت أرضهم كردستان حسب تصوراتهم. ولم يتعرض المسيحيون إلى أية هجمات ضدهم في كردستان، بل أسست حكومة الأقليم فروعاً لهم في مديريات الثقافة السريانية هناك، وترعى إصدار كتبهم ومؤلفاتهم. وهناك أدباء مسيحيون أصدروا كتبهم في كردستان، وبدعم منها، منهم، شاكر مجيد سيفو وهيثم بهنام بردى وزهير بهنام بردى وسمير خوراني وسعدي المالح الذي توفي أخيراً.
من الأنوار إلى الظلمات
يعود بنا تنظيم داعش إلى صفحات مضيئة من التاريخ في التعامل مع المسيحيين، وفيه أن أبا جعفر المنصور، مؤسس بغداد، عندما أصابه، في أواخر أيامه (سنة 148هـ) مرض في معدته، وانقطعت شهيته عن الطعام. وعندما عجز الأطباء المشرفون عن علاجه، استقدم الطبيب السرياني، جورجيس بختيشوع، عالم زمانه في الطب، فأكرمه المنصور، وخلع عليه، وأنزله في قصر خاص، وعندما علم أنه لا توجد امرأة تخدمه، أرسل إليه ثلاث جوارٍ روميات وثلاثة آلاف دينار، فقبل الدنانير، وردّ الجواري إلى الخليفة، قائلاً: "إننا معشر النصارى لا نتزوج إلا بامرأة واحدة، وما دامت حيّة لا نأخذ غيرها". هكذا أضحك الطبيب الخليفة، وشفاه من مرضه. ولو قارنّا تلك الواقعة التاريخية بما ترتكبه "خلافة داعش" البربرية، سيتبيّن لنا أن العالم عاش عهد الأنوار، وها هو يعود إلى عهد الظلمات.
في التاريخ الحديث، كان المسيحيون يعيشون في رعاية مهمة من الرئيس الراحل، صدام حسين، الذي أمر بترميم وتجديد أنحاء دير مار متى في الموصل من الداخل والخارج في عهد المطران سيرويوس إسحق ساكا، وأيضاً في عهد مار ديوسقورس لوقا شعيا، مطران الدير والأبرشية (1980 ـ 1984)، بكلفة بنحو 451 ألف دينار، إضافة إلى تبليط الشارع من مفرق عقرة الجديد إلى الدير بكلفة أكثر من مليونين ونصف مليون دينار في ذلك الوقت.
كما شهدت الأديرة ازدهاراً لا مثيل له، من حيث إقامة الاحتفالات البهيجة. وكان المسيحيون
يعتبرون صدام حسين سماءً واقية لهم من أي تطرف، بل وكان أقرب حراسه من المسيحيين، إضافة إلى نائب رئيس الوزراء، طارق عزيز، الذي كان علمانياً، ولم يهتم بأهله المسيحيين من مبدأ طائفي. وفي فترة حكم صدام، كان المسيحيون يكنّون له الحب والتقدير، لأنهم كانوا يدركون أن الأقليات لا يمكن أن تعيش إلا في أحضان دولة قوية، لأن المكونات الكبيرة قادرة على حماية نفسها بالميليشيات، كما نرى في زمن الاحتلال الأميركي. ولأن المسيحيين العراقيين مسالمون طوال تاريخهم، لم يُعتبروا مكوناً خطراً، ولم تكن لديهم طموحات سياسية كبيرة. ولكن، بعد الغزو الأميركي، أصبحت البلاد ساحة معركة بين المقاومة ومقاومة الاحتلال، فكان المسيحيون أول الضحايا. وهكذا، اضطر مسيحيو العراق أن يعيشوا الظلمات من جديد.
الأقاليم الطائفية لا تحمي المسيحيين
تمارس دولة داعش في الموصل، اليوم، أبشع أنواع الاضطهاد بحق المسيحيين العراقيين، وتتحمل مسؤولة هذا الاضطهاد الحكومة المركزية، ونوري المالكي تحديداً، وهو الذي سد الآفاق أمام المسيحيين والسنّة والشيعة والمكوّنات الأخرى. والادعاء بوجود دولة مدنية وديمقراطية، وذات برلمان ودستور، لا أساس له من الصحة. ولا يوجد أي موقف يُذكر لرئيس البرلمان المنتخب بشأن الانتهاكات التي يتعرض لها مسيحيو البلاد، فالجميع يفكر بأقاليم طائفية، ونواب البرلمان يتصارعون على الغنائم. ولا ترى حكومة بغداد في هجوم داعش على المسيحيين سوى مبرر لكي تطرح نفسها ضمانة لهم، وتتاجر بالشعارات الرنانة.
ومن هنا، لا تنعزل مأساة المسيحيين العراقيين عن مأساة وطن بأكمله. وهذه الفسيفساء التي سماها أحد المستشرقين "ثريدة العالم"، وكانت نموذجاً لتعايش الطوائف كافة، في تعددية الأديان والمذاهب والطوائف، مهددة، الآن، بحرف (نون) الذي بات كابوساً يلاحق مسيحيي الموصل، وهو إشعار بضرورة رحيلهم وإعادة ملكية الدار المختومة به إلى بيت مال المسلمين في أقرب فرصة، وإلا السيف قادم لا محالة، بعد أن يشحذه الداعشيون بنيران الحقد والكراهية والظلامية. ولا يرى مسيحيو الموصل والعراق، حالياً، سوى ضمانة واحدة لهم، هي الدولة المدنية العصرية الديمقراطية، العلمانية القائمة على دستور حقيقي، غير طائفي، كتبه أبناؤه بلغة عربية صافية، لا ما كتبه بول بريمر بلغة أعجمية. ولكن، تبدو هذه الدولة الحلم بعيدة عن التحقق، في خضم الأحداث المتسارعة في العراق والعالم العربي.