لم يسرِ قانون إيقاف توزيع قطع الأراضي السكنية للمواطنين على الأموات منهم، إذ خصصت الحكومة العراقية أخيراً 200 كيلومتر مربع لدفن ضحايا العنف الجدد في العراق بعد أن غصّت المقابر القديمة بهم، وباتت مواكب الجنائز في بلاد الرافدين أكثر بتسعة أضعاف من مواكب الزفاف.
وأعلن مسؤولون عراقيون عن ارتفاع معدل الوفيات في العراق إلى أعلى نسبة له منذ عام 2006، إذ بلغ متوسط القتلى في اليوم الواحد 20 شخصاً غالبيتهم من المدنيين يسقطون خلال المعارك اليومية أو القصف الجوي على المدن الشمالية والغربية والتفجيرات بالسيارات المفخخة والشحنات الناسفة على جانبي الطرق.
وحسب دائرة الإحصاء في وزارة الصحة العراقية، فإن معدل الوفيات المرتفع دفع السلطات الصحية إلى فتح عشرين مقبرة جديدة في مناطق مختلفة من العراق تركزت في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى وبغداد وكركوك.
ويقول الطبيب في دائرة الإحصاء العراقية في وزارة الصحة، أحمد علي، لـ "العربي الجديد"، إن "11 مقبرة استحدثت من قبل الأهالي في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة الاتحادية واضطررنا للتعامل معها كأمر واقع فيما افتتحت تسع أخرى من قبل الدولة وتوشك بعضها على الامتلاء بالضحايا رغم حداثة افتتاحها".
ويضيف علي أن "قسماً من المقابر خصّصه المواطنون لضحايا العنف من المدنيين ورفضوا أن يتم دفن الجلاد والضحية في مكان واحد"، في إشارة إلى التفريق بين الذين يحملون السلاح من القوات الحكومية أو تنظيم "الدولة الإسلامية" من جهة وبين المدنيين الضحايا من جهة أخرى.
وكانت الحكومة العراقية قد أعلنت مطلع الشهر الحالي عن إيقاف عمليات توزيع الأراضي السكنية وعمليات نقل الملكية بين المواطنين حتى إشعار آخر، إلا أنها استثنت من ذلك على ما يبدو منح الأراضي للموتى.
من جهته، يقول النائب في البرلمان العراقي أحمد الدليمي، في تصريح لـ "العربي الجديد" إن "افتتاح المقابر في العراق أكثر من افتتاح المشاريع، والبلاد تحولت إلى مأتم كبير في كل مدنه".
ويوضح أن "الأنبار وحدها افتتحت أربع مقابر غالبيتها لضحايا قتلوا في القصف الجوي أو المعارك الدائرة في المحافظة الغربية، بينها مقبرة شيدت داخل ساحة في مدرسة ابتدائية غربي الرمادي، وتقرر إلغاء الدوام في تلك المدرسة احتراماً للموتى وحفاظاً على عقول الأطفال".
وتتنافس المليشيات المسلحة والسيارات المفخخة التي يفجّرها "داعش" على الصدارة في السبب الرئيس لفتح مقبرتين جديدتين في بغداد، لم تميز بين سكانها في المذهب أو العرق.
ويقول رضا عمران البالغ من العمر 51 عاماً، ويعمل حارساً في مقبرة المحمودية جنوبي بغداد لـ "العربي الجديد"، "هنا يستقرّ الخصوم، وفي النهاية ينام كل واحد بجوار الآخر أنظر إليهم كل يوم وأتوقع أنهم نادمون، ويلوم كل واحد منهم نفسه على ما ضيعه من فرصة في الحياة لن تتكرر".
ويضيف "وصلَنا الخميس الماضي 6 ضحايا قتلتهم المليشيات بطريقة الإعدام، وبعد ساعة استقبلنا سبع جثث لضحايا قتلوا في تفجير سيارة مفخخة، ويشير إلى أن "المقابر باتت الطريقة الوحيدة التي تجمع شمل العراقيين بعدما فرقتهم المليشيات و(داعش) والحكومات المتعاقبة".
ووفقاً لتقارير طبية عراقية فقد بلغ عدد القتلى العراقيين من قوات الأمن والمدنيين خلال الأشهر الستة الماضية أكثر من 41 ألف قتيل، من بينهم 19 ألفاً من قوات الجيش والشرطة والمليشيات المساندة لها.
وفي حي الحوز في مدينة الرمادي، أوجد السكان مقبرة جديدة داخل حديقة عامة كانت تستخدم في وقت سابق كمحطة استراحة للعائلات الأنبارية أيام العطل والأعياد، وضمّت المقبرة نحو 150 قبراً غالبيتهم من المدنيين، وهو عدد أكبر من عدد منازل الحي.
ويقول المواطن عمر حامد لـ "العربي الجديد"، "قمت مع مجموعة من سكان الحي باستغلال حديقة الحي لدفن الضحايا خلال الحصار، الذي فرضته قوات الجيش وتعذر الوصول إلى المقبرة الرئيسية في يونيو/حزيران الماضي، لكن المقبرة نمت كشجرة على جرف نهر، وحالياً تضم 152 قبراً من بينها 121 من المدنيين قتل كثير منهم داخل منازلهم".
ويتولى حامد مع آخرين من سكان الحي عملية انتشال الضحايا ودفنهم في "الحديقة المقبرة". ويوضح أن "الكثير من الجثث لم نتمكن من التعرف إليها، وهناك قبور تضم كومة من اللحم البشري كتبنا عليها عبارة أشلاء مقطعة وجدت في منزل فلان وشارع فلان، وحرصنا على تدوين العلامات الفارقة كسلسلة مفاتيح أو منديل أو جهاز جوال وجدناه في جيوب الضحايا أو بالقرب منهم حتى يتعرف الناس على ذويهم بعد انقشاع غبار المعركة".
ووفقاً لتقرير لوزارة البلديات العراقية، فإن المقابر الجديدة العشرين افتتحت بعد أحداث ما بات يعرف بالعاشر من يونيو/حزيران، الذي شهد انهيار قوات الجيش العراقي وسقوط المدن الشمالية والغربية بيد الفصائل المسلحة ومن ثَمَّ استيلاء تنظيم "داعش" عليها بشكل كامل.
ويقول مدير عام شؤون المحافظات في وزارة البلديات، محمد السهلاني، لـ "العربي الجديد"، إننا "نعاني من انتشار المقابر في الأحياء السكنية ومناطق تجارية، وباتت مشهداً مؤلماً في كل المدن العراقية، ونسعى منذ مدة لتشريع مرسوم بنقل المقابر إلى خارج المدن وفي مناطق بعيدة تراعي التمدد العمراني في البلدات العراقية، لكن آلة الموت المستمرة أقوى من مخططات الإعمار والتنمية بكثير".