لا بدّ لكل زائر لمدينة طنجة المغربية، من تفقّد زنقاتها وفسحات بيوتها وساحاتها المطلّة على البحر، ولا بدّ له أيضًا من الصعود صوب حي مرشان ليكتشف فيه أحد أهم الفنانين المغاربة؛ العربي اليعقوبي، الذي شكّل حالة استثنائية في تصميم الملابس لأفلام عالمية وفي إنشاء مسرح مغربي ما يزال صداه يترّدد حتى اللحظة.
على مهل، وفي ظلّ الياسمين المطلّ من بيوت الحيّ، نصل إلى بيت العربي اليعقوبي. بيت مهول في صمته ودفئه ورحابته المتسعة منذ زمن الإسبان. ولد اليعقوبي سنة 1930 حين كانت طنجة واقعة تحت الحماية الدولية، وشهد أوضاع المدينة التي كانت القوى الدولية تتنافس في السيطرة عليها، إلى درجة أن العائلات كانت تتنافس أيضًا فيما بينها، ما أدّى إلى خلق نمط عيش خاص فيها.
اقرأ أيضًا: شفشاون الأميرة
طنجة ذاك الزمان
أوضاع طنجة وقتذاك كانت محور سؤال "ملحق الثقافة" لليعقوبي، الذي وصف كيف كانت "المدينة مقسومة على عائلات، وكل عائلة واقعة تحت حماية دولة محتلة معينة، الأمر الذي أدّى إلى حدوث الانشقاق وإلى نوع من الفرقة، فضلًا عن عدم وجود مجتمع منسجم مع نفسه، ومحبّ للآخر". وتابع وصفها قائلًا إنها نوع من "الطغيان، فمن كان لديه وقاية شبه جنسية، وتحت حماية القنصلية البريطانية، راح يظنّ نفسه أعلى شأنًا ممن هم تحت الحماية الإسبانية مثلًا. وقد انتهز الإسبان الظروف في فترة الحرب العالمية الثانية، فهاجموا المدينة عسكريًا".
في ذلك الوقت كان اليعقوبي يعيش داخل أسوار القصبة أو المدينة القديمة، ويشهد من موقعه ما يحدث لها. ناسٌ كثر واحتجاجات مغاربة ضدّ الاحتلال، وجنسيات بريطانية وأميركية وألمانية وفرنسية تتمشى في الشوارع. ومكتبات ومسارح وصالات سينما عديدة تأسست في تلك الفترة أيضًا. كما نبغ كُتّاب مغاربة، وكتّاب آخرون أتوا وصنعوا أدبهم من مدينة "البيتلز".
يتذكر اليعقوبي ذلك الجو المختلط والثقافي، من خلال الكاتب المغربي عبد القادر الشاط، الذي ذاع صيته بسبب روايته "فسيفساء باهتة" التي كتبها بلغة فرنسية أنيقة، ونشرت في باريس سنة 1932، يقول عنه: "كان جاري، واشتهر بقصته تلك لمدة طويلة". كانت جاذبية طنجة ذاك الزمان لا تقاوم، كذا شارك في طابعها الثقافي المميز مثقفون عالميون، مثل الكاتبة الفرنسية مارغريت يورسنار والأميركي بول بولز والمغربي محمد شكري وغيرهم.
الشغف بالمسرح ولقاء ويلز
شغل المسرح بال اليعقوبي، عندما مثّل الأكاديمية الفرنسية المشهورة لمدة عامين في المغرب، ونظّم لها أعمالها وعروضها في مختلف مدن المغرب، يقول: "كبرت الصداقات وتشاركت الأسرار خلال الجولات المسرحية. كان الجو لطيفًا خفيفًا. تقاربنا وانسجمنا. وأصبح جون دافيه والممثل السينمائي والمسرحي الفرنسي جيرار فيليب من أصدقائي. كنّا نمثّل في سينما موريتانيا، ومسرح سيرفانتس- المكانان أصبحا أطلالًا -، فقد مثّل جيرار دور البطولة في قصة تحكي عن ملك قشتالة، وعن دفاعه عن ابنة الملك ضدّ أحد أبناء النبلاء. هذا الدور دفع راسين للكتابة عنه، وجعل مؤسس حزب الاستقلال والزعيم الوطني "العلال الفاسي" يصرخ في الجمهور الصامت آنذاك لجمالية المسرحية، وكان جينيه آندريه فالكون من بين الممثلين أيضًا".
اقرأ أيضًا: عبد الكريم الطبال، قتل الأب هو قتل للتاريخ وللإبداع
تحول الشغف بالمسرح إلى وجهة تأسيسية صلبة. وإذ سئل اليعقوبي عن أسباب شغفه بـ "أبو الفنون" أجاب :"يلقن المرء الإلقاء والفصاحة والتكوين وكيفية الوقوف على الخشبة، والسكوت عن تأثّر الجمهور، والهدوء، والتغلب على الخوف الممزوج بالاطمئنان، الاطمئنان إلى أن المرء أصبح ممثلًا، مما يبعثه على القراءة والدراسة وإلى مجهود كبير واجتهاد، أما الجزء الثاني فهو يتعلق بالخوف من الجمهور وتلعثم اللسان، وارتعاد الفرائص، إلا أنه مع الوقت يتمكن المرء من كلّ ذلك".
في أحد الأيام، جاء إلى مدينة الصويرة، المخرج الشهير أورسون ويلز صاحب فيلم "عطيل" (1952) المقتبس عن مسرحية وليم شكسبير الشهيرة، واختار اليعقوبي كي يتكفّل بسيجاره وصبّ نبيذه الفرنسي القديم "فيم نابليون". كانت تلك "مهمّة" اليعقوبي، إلا أنه لم يفوّت فرصته الذهبية في التعلّم من ويلز، يتذّكره قائلًا: "كنت أتابع ويلز في تفسير أدوار الممثلين وإخراج فيلم "عطيل" الذي حصل على السعفة الذهبية بمهرجان وأهداها للمغرب آنذاك".
هذه الملاحظات صبّها في تجربته بتأسيس المسرح وفرقة له، قبل استقلال المغرب في عام 1950. وسمّيت بداية فرقة المسرح المغربي - الفرنسي، ولكن بعد عرضها لمسرحية هاملت بالموازاة مع عودة محمّد الخامس من منفاه الأخير تحت أشجار غابة المعمورة، سميت الفرقة تيمنًا بالغابة بـ"المعمورة". بعد ذلك شاركت الفرقة في مهرجان المسرح الدولي العالمي، وحازت على الجائزة الثانية عن أدائها لمسرحيتين "الشطّاب" و"عمايل جحا".
وفضلًا عن أثر ويلز والأكاديمية الفرنسية، إلا أن أثر عذوبة الممثل المصري بشارة واكيم كان حاسمًا، يقول اليعقوبي :"أظنّ لولاه، لما اعتنقت المسرح. كانت تعجبني نبرة صوته وأناقته، كان شخصية عذبة".
تألّفت فرقة "المعمورة" من خمسين عضواً، لكل فرد فيها مهمة خاصة. إلا أنها لم تستمر: "هناك من ذهب في سبيله وهناك من ذهب إلى قبره" يقول اليعقوبي، الذي تابع كاشفًا أجواء ما قبل "المعمورة" في طنجة: "كان الطنجاويون في الأعياد مثلاً يذهبون للمسرح احتجاجًا على الاحتلال الدولي للمدينة، من خلال مظاهرات منظمة وأناشيد وطنية. أحيانًا كانت الشرطة البلجيكية تتدخل لتشتت الجمع. وكنا نطلق عليه اسم "المسرح الوطني" فيما بيننا".
السينما وتصميم الأزياء
بعد خشبة المسرح، انتقل اليعقوبي إلى السينما، فبرز متفردًا بتصميم الأزياء. يجلس اليعقوبي ممعنًا النظر في الناس التي تمضي في الشارع أو تجلس على أطراف المقاهي أو تمرّ من أمامها. ويعلّق على شغفه بالهندام قائلًا: "يعتقد القسيسون الكاثوليك خصوصًا، أن الهندام لا يجعلك قسيسًا، ولكنني أقول يجعلني قسيسًا وكل شيء. كنت أدوّن ملاحظاتي عن الهندام، خاصة أن الكتب التاريخية العربية تفتقر لمثل هذه الأمور، وعندما نجد فعل خلع بالعربي، لا يتبعه وصف، خلع عنه ماذا؟ عندما نتكلم عن القلنسوة لا نعرف أنواعها ولا أصلها، وهي نوع من الطرطوش جاءتنا من البندقية".
اقرأ أيضًا: عبد الكريم برشيد، ربيع عربي جديد يعيد ترتيب خرائطنا
قام اليعقوبي بتصميم الأزياء لكثير من الأفلام العالمية، لعلّ من أشهرها فيلم "الرسالة" لمصطفى العقاد. يؤمن اليعقوبي أن لكل فنان أسلوبه وأدواته، ويتذكّر أجواء التحضير والتصميم لفيلم الرسالة، وأنه احتاج إلى "أسبوع من التفكير في القصة وبلباس ممثليها، وبملامح وجوههم"، وأردف قائلًا : "ممثل دور حمزة كانت لحيته بيضاء ناصعة وكأنها فضية، أصبح الأمر صعبًا. ويجب على اللباس أن يكون متقنًا، فوجدت طريقة، طلبت من الخيّاط الذي كان يرافقني، أن يمزج بين اللونين الأزرق القاتم والبني القاتم. لذلك، فإن البحث والكتب والإلهام والتصانيف كلها ضرورية، فالسينما تكره الخشونة في اللباس، خاصة إذا كان فيلما تاريخيا، تهوى اللبس الأنيق والذي يمتد على ذات الإنسان ويعطيها قيمتها، ولكل دور له لباسه".
صمم العربي اليعقوبي المغرم بالهندام البريطاني على فوضويته، ملابس أفلام درامية وتاريخية، منها فيلم "الوقت المسروق" أو "التايم باندتس" لمخرجه البريطاني تيري غيليام، إضافة لفيلم "الإغراء الأخير للمسيح" للمخرج الأميركي مارتين سكورسيزي (1988) أما الأفلام العربية، فلم تلبس من تصميمات اليعقوبي.
بقي اليعقوبي وفيًّا لأناقته في الهندام، حين نراه جالساً في مقهى "باريس" التي تقع في زاوية شارع "الحرية" يدخن سيجارته، نلمحه مرتديًا قبعة، ومنديلًا يلّف عنقه، وزيًّا متسقًا ومتناسبًا. هذه الأناقة تطغى أيضًا على طريقته في الطهو، وطلاء البيت وترتيبه بحيث يليق بإطلالته على البحر وبتاريخه.
النضال والنقابة
رغم اتقاد موهبته، وتكريس عمره لفنّه، إلا أن اليعقوبي لم يتورع عن الالتزام والنضال، فقد أسس "دار الشباب" في سياق الحفاظ على هوية مدينة طنجة، حيث قدمت إلى المدينة، اليهودية المتعصبة أوري، وكانت تجمع شبان المغرب حول كشفية تابعة للكشافة العالمية، يتذكر الحادثة ويوضح : "فكرت بأن يكون هنا مكان كي نجمع فيه هؤلاء الشباب. فاتصلت بوزارة الشباب والرياضة مرارًا وتكرارًا، إلى أن قبلوا اكتراء مكان من مؤسسة، رينتستيكا صاحبة فندق "المنزل"، فقدمت لنا المكان بثمن رمزي. وأطلقنا عليه اسم "صلاح الدين". بدأنا بتنفيذ نشاطات اجتماعية ورياضية، أتذكر منها المباريات عندما كنا نغلب الأميركان في كرة السلة بقاعدتهم في القنيطرة".
كما أسس اليعقوبي عند استقلال المغرب، رفقة الفنان الراحل حسن الصقلي، أوّل نقابة للممثلين المغاربة، التي انضوت لاحقًا في نقابة "الاتحاد المغربي للشغل"، كنقابة مناضلة وحيدة عكست صورة النضال السياسي والاجتماعي للجيل الأوّل من الفنانين.
هذه الذاكرة أعلاها والتي سُجّلت بالجلوس جوار "بّا العربي"، كما يلقبه أصدقاؤه، كي يسمع الأسئلة، انتصرت على جلسات العلاج الكيماوي التي يقوم بها اليعقوبي منذ فترة، حتى أن قوة الإرادة وتعليمات الطبيب لم توقفه عن تناول الأشياء التي يحب، فمن أين مصدر قوته وإرادته في مقاتلة مرضه؟ أجاب: "عندما يقوم القط بلعق وبره، ثمة مادة تداويه. كذلك لنا نحن مقومات خاصة بنا، لذلك أنا أشرب عصير الرمان لينعشني، فضلًا عن المواد الكيماوية، وأظنني ما زلت قادراً على العمل والاستشارة".
اقرأ أيضًا: شفشاون الأميرة
طنجة ذاك الزمان
أوضاع طنجة وقتذاك كانت محور سؤال "ملحق الثقافة" لليعقوبي، الذي وصف كيف كانت "المدينة مقسومة على عائلات، وكل عائلة واقعة تحت حماية دولة محتلة معينة، الأمر الذي أدّى إلى حدوث الانشقاق وإلى نوع من الفرقة، فضلًا عن عدم وجود مجتمع منسجم مع نفسه، ومحبّ للآخر". وتابع وصفها قائلًا إنها نوع من "الطغيان، فمن كان لديه وقاية شبه جنسية، وتحت حماية القنصلية البريطانية، راح يظنّ نفسه أعلى شأنًا ممن هم تحت الحماية الإسبانية مثلًا. وقد انتهز الإسبان الظروف في فترة الحرب العالمية الثانية، فهاجموا المدينة عسكريًا".
في ذلك الوقت كان اليعقوبي يعيش داخل أسوار القصبة أو المدينة القديمة، ويشهد من موقعه ما يحدث لها. ناسٌ كثر واحتجاجات مغاربة ضدّ الاحتلال، وجنسيات بريطانية وأميركية وألمانية وفرنسية تتمشى في الشوارع. ومكتبات ومسارح وصالات سينما عديدة تأسست في تلك الفترة أيضًا. كما نبغ كُتّاب مغاربة، وكتّاب آخرون أتوا وصنعوا أدبهم من مدينة "البيتلز".
يتذكر اليعقوبي ذلك الجو المختلط والثقافي، من خلال الكاتب المغربي عبد القادر الشاط، الذي ذاع صيته بسبب روايته "فسيفساء باهتة" التي كتبها بلغة فرنسية أنيقة، ونشرت في باريس سنة 1932، يقول عنه: "كان جاري، واشتهر بقصته تلك لمدة طويلة". كانت جاذبية طنجة ذاك الزمان لا تقاوم، كذا شارك في طابعها الثقافي المميز مثقفون عالميون، مثل الكاتبة الفرنسية مارغريت يورسنار والأميركي بول بولز والمغربي محمد شكري وغيرهم.
الشغف بالمسرح ولقاء ويلز
شغل المسرح بال اليعقوبي، عندما مثّل الأكاديمية الفرنسية المشهورة لمدة عامين في المغرب، ونظّم لها أعمالها وعروضها في مختلف مدن المغرب، يقول: "كبرت الصداقات وتشاركت الأسرار خلال الجولات المسرحية. كان الجو لطيفًا خفيفًا. تقاربنا وانسجمنا. وأصبح جون دافيه والممثل السينمائي والمسرحي الفرنسي جيرار فيليب من أصدقائي. كنّا نمثّل في سينما موريتانيا، ومسرح سيرفانتس- المكانان أصبحا أطلالًا -، فقد مثّل جيرار دور البطولة في قصة تحكي عن ملك قشتالة، وعن دفاعه عن ابنة الملك ضدّ أحد أبناء النبلاء. هذا الدور دفع راسين للكتابة عنه، وجعل مؤسس حزب الاستقلال والزعيم الوطني "العلال الفاسي" يصرخ في الجمهور الصامت آنذاك لجمالية المسرحية، وكان جينيه آندريه فالكون من بين الممثلين أيضًا".
اقرأ أيضًا: عبد الكريم الطبال، قتل الأب هو قتل للتاريخ وللإبداع
تحول الشغف بالمسرح إلى وجهة تأسيسية صلبة. وإذ سئل اليعقوبي عن أسباب شغفه بـ "أبو الفنون" أجاب :"يلقن المرء الإلقاء والفصاحة والتكوين وكيفية الوقوف على الخشبة، والسكوت عن تأثّر الجمهور، والهدوء، والتغلب على الخوف الممزوج بالاطمئنان، الاطمئنان إلى أن المرء أصبح ممثلًا، مما يبعثه على القراءة والدراسة وإلى مجهود كبير واجتهاد، أما الجزء الثاني فهو يتعلق بالخوف من الجمهور وتلعثم اللسان، وارتعاد الفرائص، إلا أنه مع الوقت يتمكن المرء من كلّ ذلك".
في أحد الأيام، جاء إلى مدينة الصويرة، المخرج الشهير أورسون ويلز صاحب فيلم "عطيل" (1952) المقتبس عن مسرحية وليم شكسبير الشهيرة، واختار اليعقوبي كي يتكفّل بسيجاره وصبّ نبيذه الفرنسي القديم "فيم نابليون". كانت تلك "مهمّة" اليعقوبي، إلا أنه لم يفوّت فرصته الذهبية في التعلّم من ويلز، يتذّكره قائلًا: "كنت أتابع ويلز في تفسير أدوار الممثلين وإخراج فيلم "عطيل" الذي حصل على السعفة الذهبية بمهرجان وأهداها للمغرب آنذاك".
هذه الملاحظات صبّها في تجربته بتأسيس المسرح وفرقة له، قبل استقلال المغرب في عام 1950. وسمّيت بداية فرقة المسرح المغربي - الفرنسي، ولكن بعد عرضها لمسرحية هاملت بالموازاة مع عودة محمّد الخامس من منفاه الأخير تحت أشجار غابة المعمورة، سميت الفرقة تيمنًا بالغابة بـ"المعمورة". بعد ذلك شاركت الفرقة في مهرجان المسرح الدولي العالمي، وحازت على الجائزة الثانية عن أدائها لمسرحيتين "الشطّاب" و"عمايل جحا".
وفضلًا عن أثر ويلز والأكاديمية الفرنسية، إلا أن أثر عذوبة الممثل المصري بشارة واكيم كان حاسمًا، يقول اليعقوبي :"أظنّ لولاه، لما اعتنقت المسرح. كانت تعجبني نبرة صوته وأناقته، كان شخصية عذبة".
تألّفت فرقة "المعمورة" من خمسين عضواً، لكل فرد فيها مهمة خاصة. إلا أنها لم تستمر: "هناك من ذهب في سبيله وهناك من ذهب إلى قبره" يقول اليعقوبي، الذي تابع كاشفًا أجواء ما قبل "المعمورة" في طنجة: "كان الطنجاويون في الأعياد مثلاً يذهبون للمسرح احتجاجًا على الاحتلال الدولي للمدينة، من خلال مظاهرات منظمة وأناشيد وطنية. أحيانًا كانت الشرطة البلجيكية تتدخل لتشتت الجمع. وكنا نطلق عليه اسم "المسرح الوطني" فيما بيننا".
السينما وتصميم الأزياء
بعد خشبة المسرح، انتقل اليعقوبي إلى السينما، فبرز متفردًا بتصميم الأزياء. يجلس اليعقوبي ممعنًا النظر في الناس التي تمضي في الشارع أو تجلس على أطراف المقاهي أو تمرّ من أمامها. ويعلّق على شغفه بالهندام قائلًا: "يعتقد القسيسون الكاثوليك خصوصًا، أن الهندام لا يجعلك قسيسًا، ولكنني أقول يجعلني قسيسًا وكل شيء. كنت أدوّن ملاحظاتي عن الهندام، خاصة أن الكتب التاريخية العربية تفتقر لمثل هذه الأمور، وعندما نجد فعل خلع بالعربي، لا يتبعه وصف، خلع عنه ماذا؟ عندما نتكلم عن القلنسوة لا نعرف أنواعها ولا أصلها، وهي نوع من الطرطوش جاءتنا من البندقية".
اقرأ أيضًا: عبد الكريم برشيد، ربيع عربي جديد يعيد ترتيب خرائطنا
قام اليعقوبي بتصميم الأزياء لكثير من الأفلام العالمية، لعلّ من أشهرها فيلم "الرسالة" لمصطفى العقاد. يؤمن اليعقوبي أن لكل فنان أسلوبه وأدواته، ويتذكّر أجواء التحضير والتصميم لفيلم الرسالة، وأنه احتاج إلى "أسبوع من التفكير في القصة وبلباس ممثليها، وبملامح وجوههم"، وأردف قائلًا : "ممثل دور حمزة كانت لحيته بيضاء ناصعة وكأنها فضية، أصبح الأمر صعبًا. ويجب على اللباس أن يكون متقنًا، فوجدت طريقة، طلبت من الخيّاط الذي كان يرافقني، أن يمزج بين اللونين الأزرق القاتم والبني القاتم. لذلك، فإن البحث والكتب والإلهام والتصانيف كلها ضرورية، فالسينما تكره الخشونة في اللباس، خاصة إذا كان فيلما تاريخيا، تهوى اللبس الأنيق والذي يمتد على ذات الإنسان ويعطيها قيمتها، ولكل دور له لباسه".
صمم العربي اليعقوبي المغرم بالهندام البريطاني على فوضويته، ملابس أفلام درامية وتاريخية، منها فيلم "الوقت المسروق" أو "التايم باندتس" لمخرجه البريطاني تيري غيليام، إضافة لفيلم "الإغراء الأخير للمسيح" للمخرج الأميركي مارتين سكورسيزي (1988) أما الأفلام العربية، فلم تلبس من تصميمات اليعقوبي.
بقي اليعقوبي وفيًّا لأناقته في الهندام، حين نراه جالساً في مقهى "باريس" التي تقع في زاوية شارع "الحرية" يدخن سيجارته، نلمحه مرتديًا قبعة، ومنديلًا يلّف عنقه، وزيًّا متسقًا ومتناسبًا. هذه الأناقة تطغى أيضًا على طريقته في الطهو، وطلاء البيت وترتيبه بحيث يليق بإطلالته على البحر وبتاريخه.
النضال والنقابة
رغم اتقاد موهبته، وتكريس عمره لفنّه، إلا أن اليعقوبي لم يتورع عن الالتزام والنضال، فقد أسس "دار الشباب" في سياق الحفاظ على هوية مدينة طنجة، حيث قدمت إلى المدينة، اليهودية المتعصبة أوري، وكانت تجمع شبان المغرب حول كشفية تابعة للكشافة العالمية، يتذكر الحادثة ويوضح : "فكرت بأن يكون هنا مكان كي نجمع فيه هؤلاء الشباب. فاتصلت بوزارة الشباب والرياضة مرارًا وتكرارًا، إلى أن قبلوا اكتراء مكان من مؤسسة، رينتستيكا صاحبة فندق "المنزل"، فقدمت لنا المكان بثمن رمزي. وأطلقنا عليه اسم "صلاح الدين". بدأنا بتنفيذ نشاطات اجتماعية ورياضية، أتذكر منها المباريات عندما كنا نغلب الأميركان في كرة السلة بقاعدتهم في القنيطرة".
كما أسس اليعقوبي عند استقلال المغرب، رفقة الفنان الراحل حسن الصقلي، أوّل نقابة للممثلين المغاربة، التي انضوت لاحقًا في نقابة "الاتحاد المغربي للشغل"، كنقابة مناضلة وحيدة عكست صورة النضال السياسي والاجتماعي للجيل الأوّل من الفنانين.
هذه الذاكرة أعلاها والتي سُجّلت بالجلوس جوار "بّا العربي"، كما يلقبه أصدقاؤه، كي يسمع الأسئلة، انتصرت على جلسات العلاج الكيماوي التي يقوم بها اليعقوبي منذ فترة، حتى أن قوة الإرادة وتعليمات الطبيب لم توقفه عن تناول الأشياء التي يحب، فمن أين مصدر قوته وإرادته في مقاتلة مرضه؟ أجاب: "عندما يقوم القط بلعق وبره، ثمة مادة تداويه. كذلك لنا نحن مقومات خاصة بنا، لذلك أنا أشرب عصير الرمان لينعشني، فضلًا عن المواد الكيماوية، وأظنني ما زلت قادراً على العمل والاستشارة".