العقل سيد الأحكام
صعد رجل إلى شجرة وجلس على أحد أغصانها، وأخذ يقطع أصل الغصن، وحين مرّ شخص ورأى ما يفعله، قال له: أيها الأحمق كيف تجلس على طرف الغصن وتقطعه من أصله، فلم يلتفت "الأحمق" إليه وتابع عمله بهمة ونشاط، وبعد أن انكسر الغصن ووقع على الأرض، صرخ في الرجل متعجباً: أنت صاحب كرامات، كيف عرفت أنني سأقع، ولما نفى الرجل كونه صاحب كرامات، تعلق الأحمق بأذياله أكثر وقال له: أنت إذاً إمام، فمثل هذا التواضع لا يصدر إلا من إمام، وبالطبع لم يقبل الرجل منه قسمه المغلّظ أنه ليس ولياً ولا إماماً، وكل ما هنالك أنه رأى فعلاً أحمق فوصفه.
يحكي الشيخ بهاء الدين العاملي هذه القصة، في إطار حديثه عن دأب الكثيرين على احتقار العقل والتفكير، وهي ترد خلال محاورة طريفة يختلقها بين قط وفأر عن التدين والنفاق والعدل والظلم والتصوف الكاذب والحقيقي، دون أن يترك لقارئه مجالاً واسعاً لتأويل ما يقصده برمزَي القط والفأر، بل يقول للقارئ مباشرة في منتصف كتابه (التدين والنفاق بلسان القط والفأر) أن الفأر "هو النفس الأمّارة، والقط: القوة المتخيلة، التي تُضِلّ النفس بالتخيلات الباطلة وتلغي قوة العقل، وعند ذلك تتطاول على بيت القلب وتخربه في زمن قصير، وذلك حين تكون القوة المتخيلة أقوى من النفس الأمارة"، ولكي يعطي العاملي قارئه تلميحاً بمسار الصراع بين القط والفأر، يقول له إن القط سيأخذ الفأر بالسياسة، وهو ما يعني أن القوة المتخيلة ستتفوق على النفس الأمّارة مستعينة بالعقل الذي هو صاحب البيت، والذي يعيش فيه كل من القط والفأر، ويجريان فيه محاورتهما الممتعة التي تختلط فيها الحكايات بالأحاديث والأحكام الفقهية بالتنظيرات الفلسفية.
كان الشيخ العاملي ظاهرة فكرية وثقافية في عصره (القرن الحادي عشر الهجري)، فبرغم أنه برع في الرياضيات وعلم الجبر إلا أنه درس الشريعة والفقه والأدب والفلسفة ووصل إلى منصب رئاسة العلماء في إيران، وحرص على طلب العلم في مصر والقدس ودمشق وحلب، وكما كان كشكولاً في العلوم والمواهب فقد اشتهر أيضا بكتابه (الكشكول) الذي هجا فيه فساد زمانه قائلاً: "فسد الزمان وأهله وتصدر للتدريس من قل علمه وكثر جهله، وانحطت رتبة العلم وأصحابه، واندرست مراسمه بين طلابه". وكما يخبرنا المحقق دلال عباس الذي ترجم الكتاب عن الفارسية لأول مرة وأصدره عام 1996 فقد قصد العاملي وضع محاورته بين القط والفأر عن التدين والنفاق "لكي ينتقد أنصاف المتعلمين من رجال الدين الذين وقفوا عند ظاهر النص وأعرضوا عما هو جوهر الإسلام، علمهم قليل، وقلوبهم خالية من العرفان، وإدعاؤهم أكبر من علمهم، يستغلون منصبهم ومعرفتهم من أجل مآربهم الخاصة".
حرص العاملي في كتابه على أن يقدم رؤية مركّبة بعيدة عن أحكام "الأبيض والأسود" القاطعة والتي تعجب الجماهير في كل عصر وأوان، فمثلما ينتقد الفقهاء لبعدهم عن التصوف والزهد، نجده يشن في ذات الوقت حملة عنيفة على أدعياء التصوف الذين غلبوا الطريقة على الحقيقة، ولأنه كان يعيش في عصر مضطرب خرج فيه الناس عن حدود الاعتدال، فقد ترفع العاملي عن التعصب وانتقد أخطاء الجميع، فلم يكتف فقط بانتقاد العلماء الذين بالغوا في مظاهر التعظيم لأنفسهم، وكانوا لا يخرجون إلا في مواكب شبيهة بمواكب الملوك، بل بدأ بنفسه حين ألزمها بالطواف على أحياء الفقراء يومياً ليطلع على أحوالهم، وحين انتقده الشاه عباس قائلاً له: "سمعت أن أحد كبار العلماء يكون مع الفقراء والأراذل في أكواخهم وهذا أمر غير لائق"، فأجابه الشيخ بنبرة مهذبة لا تخلو من التحدي: "هذا الأمر غير صحيح، فأنا كثيرا ما أكون في تلك الأماكن ولم يحدث أن رأيت أحدا من كبار العلماء هناك"، فنجح في التأثير بموقفه هذا على الشاه، فصار بدوره يخرج إلى الأحياء الشعبية متنكرا ليطلع على أوضاع الرعية، ويعمد إلى تخفيف الضرائب عن كواهل الناس، وهو تصرف كان يتفق مع طبيعة السلطة في تلك العصور، ومع ذلك لا يزال الناس في زماننا الذي أصبح الشعب فيه مصدر السلطات نظرياً، يعجبون بتصرفات كهذه حين يسمعون أن حاكماً قام بها، حتى لو كان قد قام بها لأسباب دعائية.
في مقطع جميل من الكتاب يفقد القط صبره من جهل الفأر فيطلب منه أن يبيع أذن الحمار التي يسمع بها ويشتري أذناً جديدة، "لأن ما سأقوله لك لا تعيه أذن الحمار" ثم يلقي عليه موعظة يصفها بأنها ستعيد صياغة مستقبل الفأر لو عمل بها، وبعد أن ينتهي من إلقاء الموعظة على الفأر يسأله: ماذا تقول أيها الفأر بعد كل ماسمعت؟، فيقول الفأر: الوقت ضيق الآن وقد حان وقت الصلاة، فلنذهب لنصلي ونستطيع أن نتابع الحديث في وقت آخر إذا أمد الله في عمرنا، وهنا يأتي رد القط ساحقاً ماحقاً إذ يقول للفأر: إن للصلاة شروطا كثيرة من أهمها الوحدة والإخلاص والبعد عن العناد والحسد، والتوجه بقلب طاهر ونية سليمة إلى الحضرة القدسية، وليس كمثل ذلك التركي الذي بكى بين يدي الواعظ. فسأله الفأر: وكيف كان ذلك؟ فقال القط: ذُكر أن تركياً مر قرب مسجد في أحد أحياء المدينة فسمع واعظاً يلقي موعظته، فدخل التركي المسجد، وجلس بين الناس، والواعظ يلقي موعظة يعجز عن فهمها طلاب العلم، فكيف بالتركي؟ ومع ذلك أخذ التركي يبكي بصوت مسموع، فانتبه الناس عند ذلك إلى حالته واستفسروا منه عن سبب بكائه، قال: أيها الأخوة، أملك في قريتي قطيع ماعز، وفي هذا القطيع كبش أحبه حبا جما، ولي في هذه المدينة مدة، لم أر ذلك التيس، وعندما رأيت الواعظ الآن، ذكرتني لحيته وهي تهتز بلحية الكبش الذي أفتقده كثيرا، ولهذا السبب غلب عليّ البكاء. وبعد هذه الحكاية يلخص القط الحكمة التي يريد أن يوصلها للفأر قائلاً: "أيها الفأر لا قيمة لعمل يقوم به الإنسان وهو غير عالم بحقيقته".
من أجمل ما يورده الكتاب حكاية ترد في فصل اختار له العاملي عنوان (العقل سيد الأحكام)، تحكي عن أسد رأى قطّاً تائهاً في الصحراء، فأشفق عليه وقال له: أيها القط المسكين أنت من أبناء جنسنا ولكنك ضعيف عاجز ونحن أولو بأس وقوة وما أوصلك إلى هذا الحال هو الضرر الذي ألحقته بك أذية بني آدم، ووعده أنه لو وقع في يده واحد من أبناء آدم لينتقمن له منه، وحين وقع في يد الأسد حطاب مسكين، توعده الأسد بتمزيقه إرباً انتقاماً لما فعله أبناء جنسه بالقط، فقال الحطاب للأسد وهو يرتجف أنه لو لم يعطه فرصة الدفاع عن نفسه، لن يُعدّ بطلاً، فوافق الأسد على إعطائه مهلة ليهيأ أدوات لكي يبارزه بها، فقال له الحطاب إن الأدوات في بيته، وحين أذن له الأسد بالذهاب لإحضارها، قال له أنه يخاف أن يتعب نفسه في الذهاب لإحضار الأسلحة، ويعود فيجد الأسد قد هرب لخوفه من الأسلحة، فأقسم له الأسد غاضباً أنه لن يغادر مكانه حتى يعود، فطلب منه الحطاب أن يثبت صدق نيته بالموافقة على ربط يديه ورجليه بالحبل إلى جذع شجرة، على أن يقوم بتحريره حين يعود وقد حمل الأسلحة، فقال الأسد أنه لا يمكن أن يخاف من أي أسلحة لكنه موافق على عرض الحطاب لكي يثبت شجاعته، فتقدم الحطاب وربط يدي الأسد ورجليه بالحبل ربطاً محكماً، وبعد أن فرغ أمسك الفأس وبدأ يضرب الأسد، وكلما زأر الأسد ضربه الحطاب بقوة غير مكترث لزئيره فقال الأسد: "كل ما كنت قد سمعته عن بني آدم أقل مما عانيت منك، الآن علمت أن ليس بوسع أحد أن يتحدى قوة العقل التي يتحلى بها ابن آدم".
توتة توتة خلصت الحدوتة، في حين لم يخلص بعد احتقارنا الكامل للعقل سيد الأحكام، حتى وإن ضلّ أحياناً أو زلّ.
ـ التدين والنفاق بلسان القط والفأر ـ بهاء الدين العاملي ـ ترجمة وتحقيق دلال عباس ـ رياض الريس للكتب والنشر