08 يوليو 2019
العودة إلى بيت الثِّفال
ما كنتُ أرغبُ بالعودة إلى بيت الثفال: بيت أهلي في المفرق (الأردن) على هذه النحو الذي صرت إليه. منذ الدرجة الأولى، بدأت أوطّن نفسي على بيتٍ آخر، مجهّز لرجل مريض.
بمشقةٍ وصلت إلى مطبخ بيتنا، وقد كان أكثر من مجرّد مطبخ. يمكن أن يكون أكثر من غرفة طعام، وغرفة قعدةٍ تلتمّ فيه العائلة في أوقات معلومة، لا تحدّدها الساعة، بل الشمس في السماء. ما أن أسكنت الروائح القهوة الهال والقرفة الروعي، حتى عادت الأصوات تنبعث من غير جهة ومكان، فها هو صوت أمي ينادي: هات "الثفال". خذ "الثفال". أين "الثفال". وهنا صوت أمي، وهي تطلب مني، أو من أحد إخوتي، إحضار ذلك "الشيء" الملازم لكل وجبة طعام، حتى هبَّتْ لدائن البترول، فأغرقتنا ببلاستيكها العجائبي الملون.
اختفى "الثفال"، وحلَّ محله "المشمّع"، ولكنَّ ذلك لم يحدث إلا بعد وفاة الشيء، خارج البيت، بعيداً عن بيوت الأقارب المتراصّة كجسدٍ من طينٍ، وتبنٍ يتنفس بمئة رئة. اللغة هي التي دلتك إلى ذلك. لغة البيت. تحديداً، لغة الأم. في بيتكم "لغةُ" ليست "لغة" المدينة. الكلمات دلّتك إلى "أصلك" بسبب لسان أمك الذي لم يخضع لـ "التطبيع". الذي ظل محتفظاً، حتى آخر لحظةٍ، بغربةٍ تتضاعف مع اضطراد تمدين محيطها. لم تكن البداوة في بعض البيئات التي عشتَ فيها صغيراً موضع احتفاء، أو حتى شارة اختلاف. كانت أحياناً سبّة: ولك يا بدوي، يا مصدّي! كنت تعرف أنك تتحدّر من تلك الأرومة المذمومة، ولكن أين الصدأ؟ لم يكن "الثفال" هو الفارق الوحيد بيني وبين الآخرين. ثمّة سلسلة طويلة من الألفاظ والمجازات ظلت تتلكأ على لسان البيت، فيما انقرضت في لغة المدرسة والشارع، وربما لم تُسمع قط. ستعرف، عندما أخذت اللغة تتجاوز، عندك، دور العراك أو الشتيمة، أصل عددٍ من الألفاظ التي أرَّقت طفولتك.. ولكن ليس "الثفال". إنه مجرّد لفظٍ بدويٍّ غريبٍ، مُنَفِّرٍ، لا معنى له!
في دربٍ للمشاة أشبه بخطوط متاهةٍ ملتفّةٍ وسط حقول مقاطعة كِنت الإنكليزية الخضراء:
كأنَّ حُدُوجَ الَمْالِكِيَّةِ غُدْوَةً/ خَلايا سَفِينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ... أن الموقع المذكور في معلقة عمرو بن كلثوم على الخط. سمعتَ، وأنا شارد الذهن بعض الشيء، أبياتاً يتوعد فيها، بنبرة فخرٍ مجلجلة، خصمه عمرو بن هند:
أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا/ وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِيْنَــا
بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّايَاتِ بِيْضـاً/ وَنُصدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَـا.
إلى أن وصل الترنّم بالرويِّ المفتوح على فضاء التباهي الفاضح إلى هذين البيتين:
متَى نَنْقُـل إِلَى قَومٍ رَحَانَـا/ يكونوا فِي اللِّقَاءِ لها طحِيْنَـا
يكوْنُ ثِفالُهَا شرقِيَّ نَجْـدٍ/ وَلُهْـوتُهَا قُضَـاعَةَ أجمَعِيْنـا.
أكثر من مرة قرأتَ معلقة عمرو بن كلثوم. كان ينبغي المرور بهذا الذهب المعلق على أستار الكعبة الأدبية. فتنك الإيقاع أولاً. فتنتك المبالغة في الوصف إلى حد الكذب المبهر. ثم، لاحقاً، شدّتك الدراما بين العَمْرين أكثر مما فعلته قعقعة كلامٍ لم يعد لديه ما يفعله في التجمعات العشوائية لمدنٍ مرتجلة. مدن الإسمنت والصفيح والأنفاس المكوّمة فوق بعضها بعضاً، فقد صرتَ ترى الكلمات على نحوٍ مختلف. لم يعد ممكناً لك أن تطيق التباهي الصاهل بعد أن كان يسكرك. مع ذلك لم تستوقفك، مرة واحدة، كلمة "الثفال" التي كانت تطرق سمعك في البيت كل يوم. رنَّت في رأسِك كجرس. استرجعتَ صورة أمك مقرفصةً، على هيئة غزالةٍ مُعمّرة، في حوش البيت. عدتُ إلى "لسان العرب" أستقصي أصل الكلمة ومعناها، فكان ما يلي: الثِّفال (بالكسر) هو الجلد الذي يبسط تحت الرحى، ليقي الطحين من التراب. لم يرد "الثِّفال" عند عمرو بن كلثوم وحده، بل، أيضاً، عند زهير بن أبي سلمى في حديثه عن الحرب (وكان الرجل شاعر السلام) حيث يقول: فَتَعـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحى بِثِفَالِهَـا/ وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُم تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ.
أعرف أن زهير يتحدث عن حرب داحس والغبراء التي دارت بين "عبس" و"ذبيان"، بسبب فرسين، واستمرت، كما يقال، أربعين عاماً. هذا موضوع آخر أتركه، مختنقاً بغباره الذهبيِّ، في كتابي المدرسي القديم. ما يهمّني، هنا، لفظة طفولتي الغريبة: "الثّفال" التي تعود إليّ كلما أتذكر كلام البيت أو كلام أمي. اللفظة نفسها. والمعنى نفسه عند عمرو بن كلثوم وزهير. فماذا بشأنها أمي، فضة العويِّد، التي لم تذهب إلى مدرسةٍ قط، ولم تعرف شيئاً عن المعلقات؟ إنها قطعة القماش المربعة التي قد يكون أصلها ثياباً بليت، وأعيد إنتاجها مجدّداً، يوضع عليها الطعام الذي كنتم تتناولونه متلاصقين، كتفاً لكتفٍ ومتربعين على الأرض. إنها، أيضاً، قطعة قماشٍ أخرى، مثلها يُلفُّ بها الخبز ليحفظ طرياً، وهي نفسها التي توضع تحت الرحى، ليقع عليها ما "يجرُشه" الحجران بفكّيهما الأسودين. ثِفال أمي هو، نفسه، ثِفال عمرو بن كلثوم وزهير، هو نفسُه، بلفظه وفعله، ظل يُجرجر أطرافه المهترئة، حتى جاء البلاستيك بأعاجيب غيّرت، في سرعة البرق، أدوات حياةٍ وأسماءها، عاشت قروناً بين الأيدي وعلى الألسن.
اختفى "الثفال"، وحلَّ محله "المشمّع"، ولكنَّ ذلك لم يحدث إلا بعد وفاة الشيء، خارج البيت، بعيداً عن بيوت الأقارب المتراصّة كجسدٍ من طينٍ، وتبنٍ يتنفس بمئة رئة. اللغة هي التي دلتك إلى ذلك. لغة البيت. تحديداً، لغة الأم. في بيتكم "لغةُ" ليست "لغة" المدينة. الكلمات دلّتك إلى "أصلك" بسبب لسان أمك الذي لم يخضع لـ "التطبيع". الذي ظل محتفظاً، حتى آخر لحظةٍ، بغربةٍ تتضاعف مع اضطراد تمدين محيطها. لم تكن البداوة في بعض البيئات التي عشتَ فيها صغيراً موضع احتفاء، أو حتى شارة اختلاف. كانت أحياناً سبّة: ولك يا بدوي، يا مصدّي! كنت تعرف أنك تتحدّر من تلك الأرومة المذمومة، ولكن أين الصدأ؟ لم يكن "الثفال" هو الفارق الوحيد بيني وبين الآخرين. ثمّة سلسلة طويلة من الألفاظ والمجازات ظلت تتلكأ على لسان البيت، فيما انقرضت في لغة المدرسة والشارع، وربما لم تُسمع قط. ستعرف، عندما أخذت اللغة تتجاوز، عندك، دور العراك أو الشتيمة، أصل عددٍ من الألفاظ التي أرَّقت طفولتك.. ولكن ليس "الثفال". إنه مجرّد لفظٍ بدويٍّ غريبٍ، مُنَفِّرٍ، لا معنى له!
في دربٍ للمشاة أشبه بخطوط متاهةٍ ملتفّةٍ وسط حقول مقاطعة كِنت الإنكليزية الخضراء:
كأنَّ حُدُوجَ الَمْالِكِيَّةِ غُدْوَةً/ خَلايا سَفِينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ... أن الموقع المذكور في معلقة عمرو بن كلثوم على الخط. سمعتَ، وأنا شارد الذهن بعض الشيء، أبياتاً يتوعد فيها، بنبرة فخرٍ مجلجلة، خصمه عمرو بن هند:
أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا/ وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِيْنَــا
بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّايَاتِ بِيْضـاً/ وَنُصدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَـا.
إلى أن وصل الترنّم بالرويِّ المفتوح على فضاء التباهي الفاضح إلى هذين البيتين:
متَى نَنْقُـل إِلَى قَومٍ رَحَانَـا/ يكونوا فِي اللِّقَاءِ لها طحِيْنَـا
يكوْنُ ثِفالُهَا شرقِيَّ نَجْـدٍ/ وَلُهْـوتُهَا قُضَـاعَةَ أجمَعِيْنـا.
أكثر من مرة قرأتَ معلقة عمرو بن كلثوم. كان ينبغي المرور بهذا الذهب المعلق على أستار الكعبة الأدبية. فتنك الإيقاع أولاً. فتنتك المبالغة في الوصف إلى حد الكذب المبهر. ثم، لاحقاً، شدّتك الدراما بين العَمْرين أكثر مما فعلته قعقعة كلامٍ لم يعد لديه ما يفعله في التجمعات العشوائية لمدنٍ مرتجلة. مدن الإسمنت والصفيح والأنفاس المكوّمة فوق بعضها بعضاً، فقد صرتَ ترى الكلمات على نحوٍ مختلف. لم يعد ممكناً لك أن تطيق التباهي الصاهل بعد أن كان يسكرك. مع ذلك لم تستوقفك، مرة واحدة، كلمة "الثفال" التي كانت تطرق سمعك في البيت كل يوم. رنَّت في رأسِك كجرس. استرجعتَ صورة أمك مقرفصةً، على هيئة غزالةٍ مُعمّرة، في حوش البيت. عدتُ إلى "لسان العرب" أستقصي أصل الكلمة ومعناها، فكان ما يلي: الثِّفال (بالكسر) هو الجلد الذي يبسط تحت الرحى، ليقي الطحين من التراب. لم يرد "الثِّفال" عند عمرو بن كلثوم وحده، بل، أيضاً، عند زهير بن أبي سلمى في حديثه عن الحرب (وكان الرجل شاعر السلام) حيث يقول: فَتَعـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحى بِثِفَالِهَـا/ وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُم تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ.
أعرف أن زهير يتحدث عن حرب داحس والغبراء التي دارت بين "عبس" و"ذبيان"، بسبب فرسين، واستمرت، كما يقال، أربعين عاماً. هذا موضوع آخر أتركه، مختنقاً بغباره الذهبيِّ، في كتابي المدرسي القديم. ما يهمّني، هنا، لفظة طفولتي الغريبة: "الثّفال" التي تعود إليّ كلما أتذكر كلام البيت أو كلام أمي. اللفظة نفسها. والمعنى نفسه عند عمرو بن كلثوم وزهير. فماذا بشأنها أمي، فضة العويِّد، التي لم تذهب إلى مدرسةٍ قط، ولم تعرف شيئاً عن المعلقات؟ إنها قطعة القماش المربعة التي قد يكون أصلها ثياباً بليت، وأعيد إنتاجها مجدّداً، يوضع عليها الطعام الذي كنتم تتناولونه متلاصقين، كتفاً لكتفٍ ومتربعين على الأرض. إنها، أيضاً، قطعة قماشٍ أخرى، مثلها يُلفُّ بها الخبز ليحفظ طرياً، وهي نفسها التي توضع تحت الرحى، ليقع عليها ما "يجرُشه" الحجران بفكّيهما الأسودين. ثِفال أمي هو، نفسه، ثِفال عمرو بن كلثوم وزهير، هو نفسُه، بلفظه وفعله، ظل يُجرجر أطرافه المهترئة، حتى جاء البلاستيك بأعاجيب غيّرت، في سرعة البرق، أدوات حياةٍ وأسماءها، عاشت قروناً بين الأيدي وعلى الألسن.