14 نوفمبر 2018
الغرب إلى إنهاء فكرة العالم العربي
في العقدين الأولين من القرن العشرين، ومع سقوط الإمبراطورية العثمانية، أوجدت بريطانيا وفرنسا مؤسسة جيواستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، أسمتها العالم العربي. انضمت لاحقاً الولايات المتحدة الأميركية إلى ملَّاك تلك المؤسسة، وقام صنَّاع القرار الثلاثة المذكورون بإدارتها عن طريق عملاء مختلفين في المنطقة (مدراء إقليميون أو دوليون) اختلفت هوياتهم عبر العقود في ضوء متغيرات سياسية - اقتصادية استراتيجية عديدة، مرت بها المنطقة في القرن المنصرم. المدير الوحيد للملفات الذي لم يتغير، ولم تهتز ثقة الملَّاك الثلاثة بها عبر القرن وحتى الآن كانت إسرائيل. واليوم، ونحن على أعقاب نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تشير المتغيرات الكارثية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط منذ بداية "الربيع العربي" بأنّ ملَّاك المؤسسة المذكورة قد اتخذوا قراراً استراتيجياً بإنهاء فكرة "العالم العربي" والاستعاضة عنها بمخيال جديد، يعيد تأسيس بنية المؤسسة وأقسامها (كل دولة من العالم العربي) على معطيات تعريفية وماهيوية جديدة (فدراليات قوامها طائفي وعرقي وديني، وليس قوميا أو ثقافيا أو سياسيا، كما فعلت في القرن العشرين) ومن ثم تسليم مسؤولية إدارة تلك الأقسام الجديدة لمدراء جدد يتناسبون، بإمكاناتهم ومؤهلاتهم وقدراتهم مع معطيات القرن الجديد وظروفه ومخيالاته.
وصلت فكرة "عالم عربي" جديا اليوم إلى خواتيمها التفكيكية. لم يعد هناك في الحقيقة كيان واحد كهذا اليوم (سيناقش باحثون جديون كثيرون بأن هذا الكيان لم يكن موجوداً يوماً في الواقع). لم تزل فقط فكرة "العروبة"، بل زالت معها مشكِّلات تلك الفكرة على الأرض. عاد المشرق "شرقاً أدنى" في أدبيات الباحثين الغربين المعاصرين، لا بل يفضل بعضهم الحديث عن مشرق إسلامي (في فهمٍ لمصطلح "إسلامي" لا يمكن أن يقبله أي مسلم، لأنه يحمل دلالات دونية وتحقيرية ووصائية وتمييزية وأبوية في الحقيقة). ما عاد ما يدعى "عالم عربي" موجوداً في العقول الغربية التي تمد مطبخ صناعة قرار ملَّاك المؤسسة المشرقية بتحليلاتٍ وقراءاتٍ تنظيريةٍ، يبنون على أساسها قراراتهم الجيواستراتيجية.
ما البديل البنيوي الذي قرر الملَّاك الثلاثة اتباعه في إعادة هيكلة أقسام المؤسسة المذكورة؟ الجواب مدار بحث، بل وكباش عميق ومعقد بين الملَّاك. تمت تجربة اقتراح أن يُعاد تشكيل أقسام المؤسسة على قاعدة دينية من خلال استبدال "عالم عربي" بفكرة "عالم إسلامي". أنتج هذا عملية دفع الإسلامويين في العالم العربي (من دول إسلاموية ومن الإخوان المسلمين وتفرعاتهم المختلفة) لركوب الثورات العربية الحالمة بالحريات والديمقراطية والعولمة والحداثة وللوصاية على الربيع العربي، ومن ثم الوصول على أكتافه إلى سدة السلطة والبدء بإدارة المؤسسة، وتحويلها إلى "عالم إسلامي". فشلت التجربة لأسبابٍ معروفة.
اليوم، هناك محاولة لتجربة جديدة تستبدل فكرة "عالم عربي" بفكرة "عالم متوسطي" (من بحر متوسط) مشرقي، وتعمل على تقسيم إدارت المؤسسة وأقسامها بين أكثر من مدير ومن عميل، إما من قلب المنطقة، أو من دول إقليمية ومتوسطية معنية بالمنطقة، مع الاحتفاظ بالدور الإسرائيلي مديرا تنفيذيا مشرفا على المدراء المعنيين بملفات الأقسام المختلفة. هناك ميلٌ، عند ملاَّك المؤسسة المشرقية العربية (كما بدا لنا منذ أيام إدارة الرئيس الأميركي السابق، بارك أوباما، ويبدو أن السياسة نفسها مستمرة) لتسليم مسألة إدارة أكثر من قسم في المؤسسة للعميل الإيراني. تفيد كل المعطيات بأنَّ الملَّاك سلموا إيران إدارة ملفات العراق ولبنان بشكل مباشر وصريح. سنشهد الإعلان الرسمي عن هذا التوكيل، في أعقاب انتهاء الانتخابات البرلمانية في العراق ولبنان ربيع العام الحالي. كما أنَّ ملف إدارة كل من سورية والأردن وفلسطين ومصر قد أعطيت للروسي والإسرائيلي. أما الشمال الأفريقي العربي فقد تم تسليم ملفه للأوروبيين، في حين أنَّ الخليج سيُعطى للسعودي، كي يدير ملفه مع قرب عودة اليمن إلى الحضن السعودي بإذعان إيراني، بعد أن أذعنت السعودية أيضاً لدور إيراني متعاظم في لبنان. أما التركي فهو يصارع، لكي يقنع الملَّاك بأنه مؤهل لإدارة قسم ما من أقسام المؤسسة، بعد أن تم انتزاع كل الملفات من يديه، وإلهائه بهاجس النجاة.
في الصورة الاستراتيجية الكبرى، وبصرف النظر عن المماحكات الهوائية التي نسمع عنها في الإعلام، ما نشهده هو حتماً رمي فكرة "عالم عربي"، والبدء بإعادة خلق المنطقة وفق فلسفة ما بعد حداثوية نسبوية، ومتشظية. التحدي المميت في هذه السيرورة يواجه، في العمق، أهل المنطقة المذكورة، ويهز وعيهم الذاتي حتى النخاع. ما عاد سؤال الهوية والكينونة يمكن الإجابة عليه على قواعد التفكير نفسها التي قدمت للعربي أجوبة في القرن العشرين. اليوم، ملَّاك المشرق العربي لا يمنحون أهل المنطقة رفاهية الوقت، كي يستوعبوا، وفق ظروفهم، ما يحصل لهم وحولهم. لا مجال لأهل المنطقة للتداعي التدريجي نحو عالمهم الجديد، إذ يتم إيجاده على جثثهم وكتابة بنوده وقوانينه وشروطه بدمائهم ودموعهم.
أي عالم سينتج عن هذه التجربة؟ لا أحد يعلم. الفادح أنه لا أحد من صناع الأفكار والقرار يعتقد أنَّ الحرية والديمقراطية والحداثة والعلمانية والعدالة والكرامة يمكن أن تكون خياراً حقيقياً بديلاً لإعادة تشكيل هذا الجزء من العالم. المطلوب هو محو كل ما يمت بصلة لفكرة "عالم عربي" من جغرافيا وكيانات وجماعات وإيديولوجيات وهويات، بل وبشر، من الوجود.
وصلت فكرة "عالم عربي" جديا اليوم إلى خواتيمها التفكيكية. لم يعد هناك في الحقيقة كيان واحد كهذا اليوم (سيناقش باحثون جديون كثيرون بأن هذا الكيان لم يكن موجوداً يوماً في الواقع). لم تزل فقط فكرة "العروبة"، بل زالت معها مشكِّلات تلك الفكرة على الأرض. عاد المشرق "شرقاً أدنى" في أدبيات الباحثين الغربين المعاصرين، لا بل يفضل بعضهم الحديث عن مشرق إسلامي (في فهمٍ لمصطلح "إسلامي" لا يمكن أن يقبله أي مسلم، لأنه يحمل دلالات دونية وتحقيرية ووصائية وتمييزية وأبوية في الحقيقة). ما عاد ما يدعى "عالم عربي" موجوداً في العقول الغربية التي تمد مطبخ صناعة قرار ملَّاك المؤسسة المشرقية بتحليلاتٍ وقراءاتٍ تنظيريةٍ، يبنون على أساسها قراراتهم الجيواستراتيجية.
ما البديل البنيوي الذي قرر الملَّاك الثلاثة اتباعه في إعادة هيكلة أقسام المؤسسة المذكورة؟ الجواب مدار بحث، بل وكباش عميق ومعقد بين الملَّاك. تمت تجربة اقتراح أن يُعاد تشكيل أقسام المؤسسة على قاعدة دينية من خلال استبدال "عالم عربي" بفكرة "عالم إسلامي". أنتج هذا عملية دفع الإسلامويين في العالم العربي (من دول إسلاموية ومن الإخوان المسلمين وتفرعاتهم المختلفة) لركوب الثورات العربية الحالمة بالحريات والديمقراطية والعولمة والحداثة وللوصاية على الربيع العربي، ومن ثم الوصول على أكتافه إلى سدة السلطة والبدء بإدارة المؤسسة، وتحويلها إلى "عالم إسلامي". فشلت التجربة لأسبابٍ معروفة.
اليوم، هناك محاولة لتجربة جديدة تستبدل فكرة "عالم عربي" بفكرة "عالم متوسطي" (من بحر متوسط) مشرقي، وتعمل على تقسيم إدارت المؤسسة وأقسامها بين أكثر من مدير ومن عميل، إما من قلب المنطقة، أو من دول إقليمية ومتوسطية معنية بالمنطقة، مع الاحتفاظ بالدور الإسرائيلي مديرا تنفيذيا مشرفا على المدراء المعنيين بملفات الأقسام المختلفة. هناك ميلٌ، عند ملاَّك المؤسسة المشرقية العربية (كما بدا لنا منذ أيام إدارة الرئيس الأميركي السابق، بارك أوباما، ويبدو أن السياسة نفسها مستمرة) لتسليم مسألة إدارة أكثر من قسم في المؤسسة للعميل الإيراني. تفيد كل المعطيات بأنَّ الملَّاك سلموا إيران إدارة ملفات العراق ولبنان بشكل مباشر وصريح. سنشهد الإعلان الرسمي عن هذا التوكيل، في أعقاب انتهاء الانتخابات البرلمانية في العراق ولبنان ربيع العام الحالي. كما أنَّ ملف إدارة كل من سورية والأردن وفلسطين ومصر قد أعطيت للروسي والإسرائيلي. أما الشمال الأفريقي العربي فقد تم تسليم ملفه للأوروبيين، في حين أنَّ الخليج سيُعطى للسعودي، كي يدير ملفه مع قرب عودة اليمن إلى الحضن السعودي بإذعان إيراني، بعد أن أذعنت السعودية أيضاً لدور إيراني متعاظم في لبنان. أما التركي فهو يصارع، لكي يقنع الملَّاك بأنه مؤهل لإدارة قسم ما من أقسام المؤسسة، بعد أن تم انتزاع كل الملفات من يديه، وإلهائه بهاجس النجاة.
في الصورة الاستراتيجية الكبرى، وبصرف النظر عن المماحكات الهوائية التي نسمع عنها في الإعلام، ما نشهده هو حتماً رمي فكرة "عالم عربي"، والبدء بإعادة خلق المنطقة وفق فلسفة ما بعد حداثوية نسبوية، ومتشظية. التحدي المميت في هذه السيرورة يواجه، في العمق، أهل المنطقة المذكورة، ويهز وعيهم الذاتي حتى النخاع. ما عاد سؤال الهوية والكينونة يمكن الإجابة عليه على قواعد التفكير نفسها التي قدمت للعربي أجوبة في القرن العشرين. اليوم، ملَّاك المشرق العربي لا يمنحون أهل المنطقة رفاهية الوقت، كي يستوعبوا، وفق ظروفهم، ما يحصل لهم وحولهم. لا مجال لأهل المنطقة للتداعي التدريجي نحو عالمهم الجديد، إذ يتم إيجاده على جثثهم وكتابة بنوده وقوانينه وشروطه بدمائهم ودموعهم.
أي عالم سينتج عن هذه التجربة؟ لا أحد يعلم. الفادح أنه لا أحد من صناع الأفكار والقرار يعتقد أنَّ الحرية والديمقراطية والحداثة والعلمانية والعدالة والكرامة يمكن أن تكون خياراً حقيقياً بديلاً لإعادة تشكيل هذا الجزء من العالم. المطلوب هو محو كل ما يمت بصلة لفكرة "عالم عربي" من جغرافيا وكيانات وجماعات وإيديولوجيات وهويات، بل وبشر، من الوجود.