نتكلّم عن الغضب بوصفه ردّاً طبيعياً على ما جرى في بيروت. الغضب هو بالتأكيد أكبر ممّا يظهر. إنه أكبر من عدد الذين نزلوا وينزلون إلى الشوارع، أكبر بالتأكيد من الأعداد التي تطوّعت لتنظيف المدينة ورفع الشظايا والأنقاض، أكبر من التعليقات الحادّة والساخرة التي تملأ الفايسبوكات، أكبر من كلّ ما يظهر فيه وما يحمل صورته وما يقدّمه لبقية اللبنانيين. إنه بالتأكيد عالق في كل نفس، في كل داخل، في كل وجدان. إنه عارم بعدد أولئك الذين يسكنون البلد، يغلي في كل فرد وكل شخص.
لكن ذلك نظريٌّ فحسب، صحيح بقدر ما هو افتراضي، لأنّنا لا نسمع صيحته، لا نسمعها بالقدر الذي ينبغي أن يدوّي، بالقدر الذي ينبغي أن يُطلقها به شعب كامل، بضعة ملايين تخرج إلى الشارع وتصرخ في ذات الوقت. هذا بالطبع خيال، لكن ينبغي أن يكون الأمر هكذا، ينبغي أن يكون سكون المدينة هو هذه الصيحة المشلولة، الصيحة المخنوقة، أن يكون دوي الانفجار الذي دام أقل من دقيقة لا يزال يتردّد في رؤوس الآلاف، وإن تلاحقت بعده وتهاوت فوقه أخبار القتلى والجرحى وصور الدمار. سكون المدينة، بل حتى حركتها التي تتجلّى في عجقة السيارات، وفي العشرات الذين يطلّون من وراء الحواجز على الدمار، بعضهم يجيء لهذه الفرجة من خارج العاصمة.
استوقفتنا سيارة آتية من عالية في الجبل وسألت عن مبنى شركة الكهرباء المواجه للمرفأ، والذي صار دماراً، آخرون لهجتهم الجنوبية لا تخفى وهُم يطلّون على أهراءات المرفأ. ذلك أشبه بملاعبة القدر، إنه طيش يصدر عن الهلع. لقد أتوا من العاصمة ومن خارجها ليتفرّجوا على المكان الذي كان جزء كبير من حياتهم يُصنع فيه، كانت الأقلية التي تتحكّم باقتصاد البلد ومعيشته تعشّش هناك. كانت هناك أسرار كبرى وخبايا بلا عدد ونزاعات خافية تحدث كل يوم، وتجعل من كل يوم سرّاً ومصيدة هائلة وخفاءً مغلقاً.
إنه أكبر من عدد الذين نزلوا وينزلون إلى الشوارع
مع ذلك لم يكن المرفأ حتى الانفجار مكشوفاً للبنانيّين، الذين يتابعون أكثر الشقاق السياسي الدائم، بدون أن يفكّروا كثيراً بما وراء هذا السجال والقوى غير المنظورة القائمة خلفه، والمؤثّرة مع ذلك وبشدّة في العملية السياسية، وفي علاقات القوى وموازينها. ليس المرفأ وحده غير مكشوف، ولكن المطار الذي يضاهيه في التأثير، والذي كان مع عوامل أخرى وراء دخول "حزب الله" 2008 إلى العاصمة. ليس هذا وحده فقط وراء السلطة الحاضرة وتجاذباتها وعلاقاتها ومحاصصاتها.
لا تبدو الأمور واضحة ولا مكشوفة، إذا كان انفجار المرفأ مروعاً ومباغتاً، وكان ما كشف عنه هذا الانفجار مروّعاً أيضاً. لم يكن اللبناني العادي يعرف الامتدادات العميقة للقوى المتشابكة في المرافق الأساسية، وفي السوق وفي النظام المالي. ما انكشف عنه المرفأ، وقبله ما انكشفت عنه المصارف وأرقام تهريب الدولار، كان جديداً على اللبنانيين، الذين فوجئوا بمعرفة أنهم كانوا يعيشون في الهاوية، وفي نظام يُخفي، في كل ناحية، مواد متفجّرة، وآن الأوان لتنفجر وتطيح بالبلد.
إنه نظام ورث الحرب الأهلية، وما زال مستمرّاً في تمويهها، بقدر ما هو مثابر عليها مستمر فيها. السلطة اللبنانية هي تماماً عكس الدولة، وهي بوجود جيشين في البلد، وبوجود مؤسسات لكل منها انتماؤه لزعامة طائفية، كل منها غافل عما لا يدخل في حيّزه. اكتشف اللبنانيون أنّهم يعيشون في ظل سلطة لا تملك اي اتّساق داخلي وتعيش على المنافسة والنزاع بين أطرافها. لا بد أن هذا الاكتشاف تأخّر كثيراً وتأخّر بدرجة أولى، بسبب انغماس اللبنانيّين في التنازع الطائفي. من هنا كانت المفاجأة، فحين وصل الوضع إلى أبعد من العلاقات الطائفية، وإلى حيث ينبغي أن توجد دولة، وصل إلى حيث لا يوجد أي طرف طائفي إلّا بالمعنى السيئ للكلمة، إلا بالمعنى الفضائحي.
نحن مسؤولون عن بقاء هذه السلطة وعمّا جرّت إليه البلد
كان الغضب اللبناني لذلك ممزوجاً بالدهشة الصارخة. لقد جفل اللبنانيون اتّجاه ما جرى ليعودوا فيكتشفوا أنه جريرة النظام والمجتمع الذي يقوم عليه هذا النظام، ويكتشفوا أنهم مسؤولون كشعب ومجتمع، فهُم الذين أوكلوا أمورهم لهذه الدويلات والزعامات الطائفية، إنهم مسؤولون أيضاً عن بقاء هذه السلطة، وعمّا جرّت إليه البلد.
كانت الجفلة ثم كان الغيظ والغضب، غضب لن يصل فوراً إلى رؤية أنّ الجنازات هي ضحية النظام اللبناني، وأنّ هذا النظام متجذّر من عقود، بل من قرون، هو المسؤول، وأنه قائم على جماهير استطاع بفضلها أن يصل إلى هذه الجريمة المستترة، الجريمة التي لن يربح فيها أحد، والجميع خاسروها وضحاياها.
بدأ النقد والنظام، الذي لا يقوى على مواجهة الغضب، لا يزال قائماً بسبب أنّ الغضب ما زال أعمى وما زال مشوَّشاً، ولم يصل إلى أن يصبح نقداً فعلياً للنظام القوي، والأقوى من المجتمع نفسه. لكن من 17 تشرين إلى الانهيار المالي إلى كورونا، يواجه النظام كلاً من هذه التحديات بعجز يصل إلى حد الانهيار. مع ذلك فإن أمامه الغضب الذي لم يتحوّل بعدُ إلى نقد ممنهج، أمّا متى يتحوّل إلى محاكمة فعلية، فينبغي انتظار الوقت.
* شاعر وروائي من لبنان