09 نوفمبر 2024
الفصل بين السلطات حلم يتبخّر
يفيد خبر نشرته مواقع إلكترونية بعنوان: "ضلّلتهما الشرطة للقيام بعملية إرهابية.. حكمٌ تاريخي ببراءة زوجين مسلمين في كندا"، بأن الزوجين الكنديين، جون نوتال وأماندا كورودي، المدانين بزرع قنابل منزلية الصنع خارج مبنىً حكومي، سيحصلان على حريتهما، بعدما قضت محكمة في كولومبيا البريطانية (مقاطعة غربي كندا) بأن الزوجين وقعا في فخٍّ للشرطة الملكية الكندية التي دفعتهما إلى القيام بـ"جريمة من صنعها".
دين هذان الزوجان المسلمان بتهمة الإرهاب العام الماضي، بعدما زرعا قنابل منزلية الصنع (طناجر ضغط) على عتبات المجلس التشريعي لمقاطعة كولومبيا البريطانية في عام 2013، قبل احتفالات يوم كندا التي تجذب آلاف المحتفلين إلى المنطقة. لكن، في تفاصيل القضية أن الزوجين حوصرا بعمليةٍ سريةٍ للشرطة، استمرت خمسة أشهر، وضمت 240 شرطياً. فهما كانا معتمدين على الإعانة الاجتماعية، من أجل العيش وسط معاناتهما، للتغلب على المشكلات العاطفية ومشكلات الإدمان، وقدّم لهما رجال الشرطة هدايا كثيراً. فكانا الأداتين اللتين استعملتهما الشرطة السرية، ودرّبتهما للقيام بعمليةٍ إرهابيةٍ، مؤكد أنها غير مجانية، بل وراءها أهداف سياسية ما. تحمل هذه الحالة معاني ودلالات ومشكلات كثيرة يجب الوقوف عندها، فقبل كل شيء، يعتبر الزوجان من الشريحة المهمّشة التي تعاني في المجتمع، وكان لديهما ميولٌ تطرّفية، كما جاء في المرافعة، أدت حالتهما إلى اختراق حياتهما من خلال نقاط ضعفها، إذ تم شراؤهما بتلبية حاجاتهما الحياتية وطموحهما في إشباع بعض الرغبات في عصر الاستهلاك والترف المعولم. كما قد يكون شعورهما بالظلم الواقع عليهما سهّل عليهما الانقياد خلف طلباتٍ تأتيهما من جهاتٍ حكوميةٍ، معتبرين أن ما يقومان به يندرج تحت بند الواجب الوطني، ما يمنحهما شعوراً زائفاً بالأهمية.
الأمر الآخر هو اللعبة الذرائعية التي تنتهجها كل الأنظمة المسيطرة، محلياً أو عالمياً، وهي بإيجاد عدوّ وهميٍّ، ثم حقنه بالمصول، ليصبح واقعاً حياً يكبر ويشكّل الخطر الأهم بالنسبة للرعايا أو المواطنين أو الشعوب التي تحكمها وتتحكّم بها هذه الأنظمة، والعدو الأكبر في عصرنا الحالي هو الإرهاب، والإرهاب الممهور بالإسلام.
لكن الجانب الآخر في القضية هو موقف القضاء من التهمة، وتبرئة المتهمين، مع إدانة واضحة
لما تورّطت به الشرطة من دور مضلّل، تنفيذاً لأجندةٍ سياسيةٍ ما، فمبدأ الفصل بين السلطات هو أحد المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية، ويُعتبر ركناً أساسياً في تنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة، حتى لا تكون هناك حكومات مطلقة، تمسك جميع السلطات ومفاصل الحياة في يديها، وبالتالي، تقييد السلطة السياسية وكفالة الحقوق والحريات من الاعتداء عليها من الدولة.
هذا المبدأ، فصل السلطات، يعني توزيع وظائف الحكم الرئيسية على هيئاتٍ ثلاث، هي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تستقل كل منها في مباشرة وظيفتها. فالسلطة التشريعية تشرّع القوانين، والسلطة التنفيذية تتولى الحكم والإدارة وتسيير أمور الدولة ضمن حدود تلك القوانين، أما السلطة القضائية فتهدف إلى تحقيق العدل تبعاً للقانون. وقد يتراوح هذا الفصل بين أن يكون مطلقاً أو مرناً بحسب النظام السياسي، وبحسب ما يقرّه دستور البلاد. لكن هذه الحالة الدستورية لم تكن، في الواقع، تطبق كما يقرّها الدستور في بلادنا، وكانت سياسة الأنظمة الحاكمة في دول ما سمي الربيع العربي قائمةً على القبض المطلق على السلطات جميعها، وفرض أجنداتها وهيمنتها، بضمانة أنظمةٍ أمنيةٍ قمعية متسلطة، على الرغم من مواد دستورها، فحتى الدستور لم يكن حاضراً بحيوية، بل كان موضوعاً على رفوف الأرشيف، يُنفض عنه الغبار، كلما تعرّض النظام السياسي لهزةٍ ما، أو تطلبت مصلحته أن يغير مواد فيه، ليواكب أجندته الراهنة.
هذا التداخل بين السلطات الثلاث، والتدخل في أدائها لصالح النظام السياسي المتعالق مع الأنظمة الاقتصادية والدينية والاجتماعية السائدة كانت لنتائجهما، من تهتك الحياة العامة واعتقال المجال العام والظلم، وشعور المواطنين بغربتهم عن ذواتهم وتهميشهم، إلى خارج دائرة القرار وتغييب الإرادة، حتى في ابتداع الحياة الشخصية، الدافع الأكبر إلى الانتفاضات العربية التي قام بها شبابٌ يريدون أن يكون لهم مجالهم، ويبتدعوا طريقة حياتهم، ويصنعوا العقد الخاص بينهم وبين الدولة التي يطمحون إليها خاليةً ومتحرّرةً من كل أشكال النظام الذي انتفضوا عليه، ليس فقط النظام السياسي، بل كل الأنظمة التي تعيق تحقيق حياتهم بالشكل اللائق بإنسانٍ يعيش في عصر الحريات وحقوق الإنسان والثورة المعلوماتية.
فما الذي تحقّق، بعد خمس سنوات ونصف من الدماء السورية المسفوحة على تراب وطنٍ يتهاوى؟ وهل تقدّم إدارة الحياة في المناطق "المحرّرة" صورةً يمكن أن يأمل المراقب لها أن تنضج إلى شكل قريبٍ من طموح هذا الشباب الذي دفع إلى الموت متخلياً عن أقل طموحاته؟ انتقلت الحياة من استبدادٍ إلى آخر، بلباس جديد، وتحرّر المجال العام من طغيانٍ إلى آخر، يضاهيه بل يتفوق عليه أحياناً، وما زالت السياسة هي الأبعد عن ساحة الصراع، ولم يطرح أحدٌ من الأطراف التي تتصارع على الأرض برنامجاً لمستقبل البلاد، وبقيت السلطة المطلقة، بأشكالها الثلاثة، في قبضةٍ من نار وحديد. صار الطموح بشكل دولةٍ قريبةٍ من الحلم الذي ثار من أجله الشباب السوري بعيداً، وصارت المطالب الأولى هي وقف الحرب، ولملمة ما تبقى من وطنٍ تقطعت أوصاله، إذا لم يكن تكريس تقطيعها هو الهدف الذي تُدفع الحرب باتجاهه. حلب اليوم نموذجٌ موجع عن هذا الواقع، وعن خوف هذا المصير.
دين هذان الزوجان المسلمان بتهمة الإرهاب العام الماضي، بعدما زرعا قنابل منزلية الصنع (طناجر ضغط) على عتبات المجلس التشريعي لمقاطعة كولومبيا البريطانية في عام 2013، قبل احتفالات يوم كندا التي تجذب آلاف المحتفلين إلى المنطقة. لكن، في تفاصيل القضية أن الزوجين حوصرا بعمليةٍ سريةٍ للشرطة، استمرت خمسة أشهر، وضمت 240 شرطياً. فهما كانا معتمدين على الإعانة الاجتماعية، من أجل العيش وسط معاناتهما، للتغلب على المشكلات العاطفية ومشكلات الإدمان، وقدّم لهما رجال الشرطة هدايا كثيراً. فكانا الأداتين اللتين استعملتهما الشرطة السرية، ودرّبتهما للقيام بعمليةٍ إرهابيةٍ، مؤكد أنها غير مجانية، بل وراءها أهداف سياسية ما. تحمل هذه الحالة معاني ودلالات ومشكلات كثيرة يجب الوقوف عندها، فقبل كل شيء، يعتبر الزوجان من الشريحة المهمّشة التي تعاني في المجتمع، وكان لديهما ميولٌ تطرّفية، كما جاء في المرافعة، أدت حالتهما إلى اختراق حياتهما من خلال نقاط ضعفها، إذ تم شراؤهما بتلبية حاجاتهما الحياتية وطموحهما في إشباع بعض الرغبات في عصر الاستهلاك والترف المعولم. كما قد يكون شعورهما بالظلم الواقع عليهما سهّل عليهما الانقياد خلف طلباتٍ تأتيهما من جهاتٍ حكوميةٍ، معتبرين أن ما يقومان به يندرج تحت بند الواجب الوطني، ما يمنحهما شعوراً زائفاً بالأهمية.
الأمر الآخر هو اللعبة الذرائعية التي تنتهجها كل الأنظمة المسيطرة، محلياً أو عالمياً، وهي بإيجاد عدوّ وهميٍّ، ثم حقنه بالمصول، ليصبح واقعاً حياً يكبر ويشكّل الخطر الأهم بالنسبة للرعايا أو المواطنين أو الشعوب التي تحكمها وتتحكّم بها هذه الأنظمة، والعدو الأكبر في عصرنا الحالي هو الإرهاب، والإرهاب الممهور بالإسلام.
لكن الجانب الآخر في القضية هو موقف القضاء من التهمة، وتبرئة المتهمين، مع إدانة واضحة
هذا المبدأ، فصل السلطات، يعني توزيع وظائف الحكم الرئيسية على هيئاتٍ ثلاث، هي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تستقل كل منها في مباشرة وظيفتها. فالسلطة التشريعية تشرّع القوانين، والسلطة التنفيذية تتولى الحكم والإدارة وتسيير أمور الدولة ضمن حدود تلك القوانين، أما السلطة القضائية فتهدف إلى تحقيق العدل تبعاً للقانون. وقد يتراوح هذا الفصل بين أن يكون مطلقاً أو مرناً بحسب النظام السياسي، وبحسب ما يقرّه دستور البلاد. لكن هذه الحالة الدستورية لم تكن، في الواقع، تطبق كما يقرّها الدستور في بلادنا، وكانت سياسة الأنظمة الحاكمة في دول ما سمي الربيع العربي قائمةً على القبض المطلق على السلطات جميعها، وفرض أجنداتها وهيمنتها، بضمانة أنظمةٍ أمنيةٍ قمعية متسلطة، على الرغم من مواد دستورها، فحتى الدستور لم يكن حاضراً بحيوية، بل كان موضوعاً على رفوف الأرشيف، يُنفض عنه الغبار، كلما تعرّض النظام السياسي لهزةٍ ما، أو تطلبت مصلحته أن يغير مواد فيه، ليواكب أجندته الراهنة.
هذا التداخل بين السلطات الثلاث، والتدخل في أدائها لصالح النظام السياسي المتعالق مع الأنظمة الاقتصادية والدينية والاجتماعية السائدة كانت لنتائجهما، من تهتك الحياة العامة واعتقال المجال العام والظلم، وشعور المواطنين بغربتهم عن ذواتهم وتهميشهم، إلى خارج دائرة القرار وتغييب الإرادة، حتى في ابتداع الحياة الشخصية، الدافع الأكبر إلى الانتفاضات العربية التي قام بها شبابٌ يريدون أن يكون لهم مجالهم، ويبتدعوا طريقة حياتهم، ويصنعوا العقد الخاص بينهم وبين الدولة التي يطمحون إليها خاليةً ومتحرّرةً من كل أشكال النظام الذي انتفضوا عليه، ليس فقط النظام السياسي، بل كل الأنظمة التي تعيق تحقيق حياتهم بالشكل اللائق بإنسانٍ يعيش في عصر الحريات وحقوق الإنسان والثورة المعلوماتية.
فما الذي تحقّق، بعد خمس سنوات ونصف من الدماء السورية المسفوحة على تراب وطنٍ يتهاوى؟ وهل تقدّم إدارة الحياة في المناطق "المحرّرة" صورةً يمكن أن يأمل المراقب لها أن تنضج إلى شكل قريبٍ من طموح هذا الشباب الذي دفع إلى الموت متخلياً عن أقل طموحاته؟ انتقلت الحياة من استبدادٍ إلى آخر، بلباس جديد، وتحرّر المجال العام من طغيانٍ إلى آخر، يضاهيه بل يتفوق عليه أحياناً، وما زالت السياسة هي الأبعد عن ساحة الصراع، ولم يطرح أحدٌ من الأطراف التي تتصارع على الأرض برنامجاً لمستقبل البلاد، وبقيت السلطة المطلقة، بأشكالها الثلاثة، في قبضةٍ من نار وحديد. صار الطموح بشكل دولةٍ قريبةٍ من الحلم الذي ثار من أجله الشباب السوري بعيداً، وصارت المطالب الأولى هي وقف الحرب، ولملمة ما تبقى من وطنٍ تقطعت أوصاله، إذا لم يكن تكريس تقطيعها هو الهدف الذي تُدفع الحرب باتجاهه. حلب اليوم نموذجٌ موجع عن هذا الواقع، وعن خوف هذا المصير.
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024